«جنيف2»: فرصة أم بداية مستنقع؟

TT

للإجابة عن السؤال: هل «جنيف2» بداية فرصة للحل السياسي في سوريا أم بداية ترسيم لملامح مستنقع لحروب عصابات لسنوات قادمة؟

منهجي منذ بدايات الكتابة هو تحليل القضايا الكبرى من خلال تفكيك القضايا الصغيرة، لذلك سأبدأ التحليل من مشهد مهم شاهدناه جميعا في الأسبوع الماضي الذي أفضى إلى توسيع مجلس المعارضة السورية.

بداية، توسيع المعارضة السورية يكشف عن اختلاف جوهري بين الدول الراعية: دول تهدف إلى تغيير النظام وتسليم سوريا لـ«الإخوان المسلمين» على غرار مصر وتونس، ودول أخرى تورطت في المشهد وتحاول في اللحظة الأخيرة أن تضع فرامل أو كوابح أو فيتو ضد تسليم مقاليد الأمور لـ«الإخوان»، رغم أنها تشارك تركيا وقطر في رؤية تغيير النظام، ولكنها تختلف معها في تسليم سوريا لـ«الإخوان».

مهم لمن يريد أن يفهم بعين صافية أن يحدد بوضوح لماذا تركيا وقطر، مثلا لا تقبل بأقل من تغيير النظام في سوريا وبقاء سوريا موحدة غير مقسمة؟

أبدأ بقطر وتركيا والصراع في سوريا. بداية، لو امتد الصراع في سوريا لمدة عام آخر ودخلنا في حرب عصابات شيعية وسنية على الأرض فالنتيجة الحتمية لصراع العصابات، بما فيها الدولة كعصابة أيضا، فالنتيجة هي ظهور دولة علوية في الساحل السوري ودولة كردية ملحقة بأكراد العراق وأكراد تركيا. من الخاسر الأكبر في هذا؟ تركيا تكون هي الخاسر الأكبر؛ لأن بها ما يقرب من 12 مليون نسمة من العلويين ربما يفضلون العيش ضمن دولة علوية تشمل الساحل السوري ولواء الإسكندرون. إذن تقسيم سوريا يقضم أيضا من المساحة التركية من الناحية العلوية، وأيضا يقضم منها قطعة من ناحية الأكراد الذين قد تكون دويلة كردية لهم في سوريا هي نواة دولة الكرد الكبرى التي تقتطع أجزاء من العراق وإيران وتركيا. إذن كل هذه الدول الخاسرة من قيام دولة كردية تتفق على عدم تقسيم سوريا، وخصوصا تركيا الخاسر الأكبر لن تقبل مطلقا بالتقسيم؛ لأنها تخسر من جهتين: ظهور دولة كردية يأتي على حساب أراضيها، وظهور دولة علوية يأتي على حساب أرضها وسكانها. إذن ما يهم تركيا هو تغيير نظام الأسد وتسليم سوريا لـ«الإخوان» وليس تقسيم سوريا، وتنضم قطر إلى تركيا في هذه الرؤية.

الأطراف الأخرى الراعية للمعارضة السورية والتي تعادي نظام الأسد ونظام «الإخوان» في الوقت ذاته، تريد تغيير النظام، أما الطرف الثاني الراعي للمعارضة غير الدينية، فهو يريد تغيير النظام شريطة ألا يتم تسليم سوريا بعد الأسد إلى «الإخوان»، ولكنه طرف حتى الآن لا يعرف كيف يمنع سيطرة «الإخوان» على سوريا بعد الأسد، فقط اقترح أن يترك هذا المجلس ويدعو لتكوين مجلس يعبر عن الداخل من خلال تمثيل المقاتلين على الأرض إذا ما أصر «الإخوان» على السيطرة. أمام هذا التهديد يبدو أن قطر وتركيا تراجعتا وقبلتا بتوسيع المجلس حتى لا يتم توسيع الشقاق بين الدول الراعية للمعارضة.

في مقابل الموقف التركي - القطري القائل بضرورة تغيير النظام، هناك محور النقيض المتمثل بنظام إيران، ومعه نظام نوري المالكي في العراق، ومعهما حزب الله، يقولون ببقاء النظام الحالي واستمراريته رغم شلال الدماء وبشاعة مائة ألف قتيل حتى اليوم.

تبقى السعودية والإمارات اللتان تتناقض مصالحهما مع إيران ومحاورها بشكل مباشر، وتختلفان في الرؤية، مع كل من تركيا وقطر. أين تقف كل منهما بين هذين النقيضين: القائلين بتغيير النظام (تركيا وقطر) والمنافحين من أجل بقائه واستمراره (إيران والعراق وحزب الله)؟ المؤكد في الحالتين أن الدولتين لا تفضلان تسليم سوريا لـ«الإخوان»، كما أنه من الواضح أيضا أنهما ليستا مع تقسيم سوريا، ولكنهما مع تغيير النظام بشرط عدم تسليم سوريا لـ«الإخوان».

هذا كلام جيد على الورق، ولكن ماذا يعني على أرض الواقع؟ وهنا أسوق مثالين يعقدان الأمر ولا يسهلانه: الأول هو كيف أن توسيع المجلس لا يعني عدم سيطرة «الإخوان» على سوريا وهناك درس واضح وضوح الشمس في الحالة المصرية، حيث كان «الإخوان» أقلية ضمن ممثلي المعارضة التي تفاوضت مع عمر سليمان، ومع ذلك لم يمنع هذا «الإخوان» من سرقة الثورة والسيطرة على المشهد في مصر ولمدة عامين حتى الآن؟!

أما المثال الثاني فهو في حالة اتخاذ الصراع منحى طائفيا بين السنة والشيعة وجيوشهما كما بينت في المقال السابق (الجيش الإيراني والسوري والعراقي وحزب الله) قد تصطف هذه الدول إلى جوار «الإخوان» في مقاومة سيطرة شيعية وتوسع إيراني في المنطقة. أقول قد تصطف رغم أنها لا تقبل هذا الاصطفاف، كما أنه ليس في مصلحة أي منهما على المدى البعيد أن تتحالفا مع «الإخوان المسلمين»، وقد كتبت هذا أيضا في مقال سابق عن المنطقة بين هلالين (الهلال الشيعي والهلال الإخواني)، وكيف أن بعض دول الخليج قد تجد نفسها مع «الإخوان» رغم أنها لا ترغب في ذلك.

توسيع مجلس المعارضة السورية كاشف لاختلاف في الرؤية رغم إصرار البعض على أنه خلاف تكتيكي حول مستقبل الحكم في سوريا وعلاقته باستقرار الإقليم.

واضح من الأحاديث ومن السلوك السياسي في هذه الأزمة أن الرؤية لم تتبلور بعد، وأن الاختلاف بين المعارضة يعكس خلافا بين الدول الراعية. قد يكون الموقفان الروسي والإيراني من الأزمة السورية موقفين في منتهى الغباء، إلا أنهما موقفان متماسكان رغم هذا، وهذه ميزة.

على الطرف الآخر المواقف تستحق الإشادة في بعدها الإنساني الذي يراعي مأساة الشعب السوري، ولكنه موقف لا يتسم بتماسك الرؤية، أو في أحسن الأحوال موقف يتسم بالضبابية. قد تكون إحدى حسنات مؤتمر «جنيف2» هي أن تتبلور الرؤى على طاولة المفاوضات، وتنقل المشهد من صراعاته الإقليمية إلى بعده الدولي.

البعد العالمي هو السياق الحاكم هنا لشكل التغيير في سوريا والمنطقة برمتها، فما زالت أميركا وأوروبا بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001 تريدان الصراع الحضاري داخل البيت الإسلامي (سنة وشيعة)، وكل هذا يشير إلى أننا أمام إما حالة صراع ممتد داخل الصندوق السوري أو صراع إقليمي محدود وممتد أيضا بين السنة والشيعة: صراع يجعل كلا من أميركا وأوروبا بعيدتين عن نيران الجهاد والحروب الدينية. إذن نحن أمام ثلاثة أهلة: هلال شيعي وهلال إخواني وهلال النيران أو هلال الحروب.

في ظل هذه الأجواء يبدو أن «جنيف2» ستكون بداية ترسيم ملامح مستنقع يدوم لسنوات لا بداية حل للأزمة؛ إذ لا يوجد تصور استراتيجي حاكم لهذا المؤتمر يأخذ في الاعتبار مصالح دول الجوار المختلفة وتخوفاتها، ويترك الأمر لجماعات صغيرة ترسم الملامح الاستراتيجية لمنطقة هامة جدا من العالم.

ما لا يدركه المنادون بتغيير النظام في سوريا أن سوريا كلها تغيرت بعد عامين من الثورة، ومن ضمنها النظام، ولكن أهم ما تغير في هذه المعادلة هو الشعب السوري نفسه الذي لم يؤخذ تغييره الكبير حتى في حسبان من يحاولون البحث عن مخرج في سوريا، مخرج يجب أن يكون في مصلحة الشعب السوري قبل كل شيء.