مرض غامض اسمه الخيبة

TT

تقول الدكتورة زهوة مجذوب في أطروحتها «الصراع على السلطة في لبنان» إنها نشأت في صيدا على روح العروبة، ولما دخلت الجامعة انضمت إلى صفوف اليسار الرائج آنذاك، وبعد الخيبات المتلاحقة أصبحت «ليبرالية» بمعنى لا هنا ولا هناك. عرفت في صيدا رفاقا كثيرين نشأوا في زمن الحلم وضمتهم السياسات إلى زمن اليأس والخيبة.

لا أنسى حماسي وكتاباتي لوصول «البعث» في العراق وسوريا بفارق شهر واحد عام 1963. لم أكن أعرف عن الحزب حتى ما يكفي

للكتابة. لكن شعاراته كانت جميلة ووعوده رحبة. وعشنا سنوات نريد أن نرى على أي بعث سوف يستقر العراق وسوريا؟ على كتابات مفكريه أم دبابات ضباطه؟ على شعار «الحرية» أم على نظم المخابرات؟ على ثقافات وحوارات منح الصلح في «مطعم فيصل» أم على قانون سعدون شاكر الذي كان رجاله يفضلون زرع القنبلة في كرسي المكتب، ضمانة للنتائج.

انهارت «القومية» عام 1967 لأنها لم تعد «مقدسة». أصبحت عرضة للتساؤل والنقد بعدما كان النقاد يقتلون مثل كامل مروة، عام 1966. ولو عاش لما بعد النكسة لما طالته الأنظمة المهزومة. وأدت تداعيات النكسة إلى أن يستولي على السلطة ملازم في ثكنة بنغازي، مقدما نفسه بـ«رسول الصحراء» و«أمين القومية العربية». ونشط عسكر العرب في المشرق والمغرب معا. وسطوا في السودان على واحدة من أكثر التجارب المدنية وعدا. وفي سوريا تبادلوا الدبابات والسجون.

صارت منطقة بلا آفاق وبلا تنمية وبلا حريات. بدل شعار الوحدة المرفوع سيطرت محسوبية المناطق وديكتاتورية التزلم وغذيت بطريقة طبيعية روح الفرقة ولم يعد يربط المدن والجهات شيء سوى النقمة والتفاوت. بدأت أحداث سوريا في درعا بسبب الفقر والقهر لا بسبب السياسة. وتأخرت في دمشق وحلب لأن النظام مالأ الحواضر الكبرى وأهمل تماما المحافظات البعيدة والأطراف. وقبل سنوات تحولت القامشلي إلى حرائق لكي تذكر الحكم بوجودها.

نجح النظام العربي فقط في ترديد الكلمات السقيمة. ألغى كل نقاش وحوار وفكر، فنما في الظلام الفكر الذي لا ينمو في الضوء. رمى القوميون والبعثيون جانبا ما وعدوا به وأقاموا في مصر والجزائر وسوريا والعراق والسودان واليمن، أنظمة ترث نفسها وجمودها وحروبها الداخلية والخارجية.

التقيت شقيق الدكتورة زهوة مجذوب يعودها في المستشفى. سألته عن مرضها. قال «لا.. شيء غامض يدعى الأمة».