الحرافيش الإيرانيون

TT

مثلما ربما تكون على علم، فإن الكاتب نجيب محفوظ في روايته «الحرافيش» يسرد تاريخ الحكومات التي امتدت على مدار ثمانية قرون. ذلك هو الطراز الغريب للحكم، حكم الحرافيش. وبينما لا يوجد عنصر زمان أو مكان محدد للقصة، فإنها تعكس بحق تاريخ حياتنا وحكوماتنا.

لقد كتب نجيب محفوظ قصة تلك الأيام. فهي تنطبق على جميع الأماكن والعصور في منطقتنا. إضافة إلى ذلك، فقد وظف قصائد حافظ شيرازي كرسالة سرية للرواية. بعبارة أخرى، يتمثل المفتاح السحري للرواية في تلك القصائد. أعتقد أن القصة هي بالفعل قصة الحكومات في مصر وإيران والعراق واليمن وليبيا وهلم جرا.

يمكنني القول إن ثمة وجه تشابه بين روايتي «الحرافيش» و«أولاد حارتنا». لكن في كلتا الروايتين يتسم الحكام بروح التهور والعجرفة، والغباء في الأغلب.

إذا سألتني من كان الرئيس الفعلي لإيران خلال السنوات الثماني الماضية (وسيظل على مدى الأشهر القليلة المقبلة)، فسأجيبك بأن كلمة «حرفوش»، أي الفرد الواحد من جماعة الحرافيش، مشتقة من عبارة «احرنفش الديك» (أي تهيأ للقتال وأقام ريش عنقه وكذلك الرجل إذا تهيأ للقتال). وإذا بادرتني بالسؤال عمن سيتولى منصب الرئيس القادم لإيران، فسأجيبك بأنه سيكون حرفوشا آخر! في هذه المرة، ربما يأتي حاملا شعارات جديدة، لكنه سيحمل الهوية نفسها.

إن «الحرافيش» رواية عن أجيال من العيش في زقاق في مدينة غير معروفة، من المفترض أنها القاهرة. لكن في هذه المرة، لا توجد أي من آليات الواقعية الأدبية. تغطي القصة فترة 800 عام تقريبا، لكن لا يبدو أن الوقت يمر، مع محاكاة الأحداث بعضها البعض عبر الأجيال. إن الأسلوب الأدبي يرتبط بالأساطير أو القصص الأخلاقية الرمزية أو الاستعارات والمجازات، غير أن تأثيره يحمل أكثر صور الواقعية حدة.

في رواية «أولاد حارتنا»، يروي نجيب محفوظ قصة وتاريخ الأديان؛ أما في «الحرافيش»، فيروي قصة الحكومات والعلاقات التي تربط بين الحكومات والشعب. في «الحرافيش»، ينصب التركيز على الشعبوية، بمعنى عامة الشعب، أي هؤلاء الذين يعملون في وظائف متدنية والعاملين غير الدائمين والعاطلين ومن هم بلا مأوى. يأتي الطفل اللقيط عاشور عبد الله الناجي من الحرافيش، وعبر صلابته البدنية وقوة شخصيته يصبح كبير عشيرته وزعيمها.

تتعقب رواية «الحرافيش»، التي تضم 10 قصص ملحمية، تاريخ عائلة الناجي على مر 10 أجيال، قد يحلو للمرء أن يطلق عليها انتكاسات، نظرا لأنه بدرجات تنزلق الأسرة من مثلها العليا الموروثة وتجمع ثروات وتبددها وتستحوذ على سلطة وتسيء استغلالها، ثم تخسرها. وفي النهاية، يظهر عاشور ناجي جديد، يسترد ثروات أسرته بالعودة إلى مثلها الأصلية. وهذا يعني أننا قد فهمنا النقطة الأولى، أننا كنا نتحرك وندور حول الصفر! من عاشور الأول حتى عاشور العاشر والأخير، لا تنس المعنى الحقيقي لعاشور!

هناك شخصيات خالدة في رواية «الحرافيش». لدينا جلال المجنون المهووس بفكرة الخلود؛ فهو يقيم مئذنة غريبة الشكل من دون مسجد ويموت مسموما على يد عشيقته السابقة.

يغلب على الأحداث في «الحرافيش» طابع العنف في الأغلب: هناك جريمة قتل وانتحار وانحراف جنسي وعنف أسري وكل أنواع الدعم الأسري والصراعات؛ والتي تعتبر جميعها بالتأكيد صورا مجازية تشير للحكومات وسيرورة التاريخ لا التقدم.

أود التركيز على هذه النقطة المحورية. في ظل حكم الحرافيش لا نتوقف فقط عند موضعنا الحالي، لكننا ننحدر أيضا إلى الماضي. استشهد هاشمي رفسنجاني بمثال شهير من القرآن:

«أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ» (سورة الرعد، آية 17).

وشرح أن الزبد لا يمكن أن يبقى.. لا يوجد مستقبل للتطرف والطيش والتهور.

في يوم 29 أغسطس (آب) 2008، صرح مدير الموساد الإسرائيلي السابق، إفرايم هاليفي لقناة «الحرة»، وهي شبكة تلفزيونية فضائية عربية ترعاها الولايات المتحدة الأميركية، بأن عبارات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الاستفزازية المعادية لإسرائيل قد وحدت صف المجتمع الدولي ضد بلده، ومن ثم فهو يخدم مصلحة رئيسة لإسرائيل:

«أحمدي نجاد هو أعظم هدية لنا. لم نكن لنستطيع تنفيذ عملية أفضل في الموساد الإسرائيلي من دون تقلد رجل مثل أحمدي نجاد منصب رئيس إيران»، هذا ما قاله إفرايم هاليفي.

وأخيرا، وبالتحديد يوم 29 مايو (أيار)، صرح دان شيفتان، الأكاديمي الإسرائيلي البارز ومدير مركز دراسات الأمن القومي بجامعة حيفا، لمحطة «بي بي سي الفارسية»، بأن أحمدي نجاد كان الوجه القبيح للحكومة الإيرانية، لكنه في الوقت نفسه كان هدية عظيمة النفع للإسرائيليين.

ما أرغب في قوله هو أنه عندما نواجه حكم الحرافيش، يمكننا أن نتبين أن تطرفهم وطيشهم صفتان تقدمان فرصة ذهبية لإسرائيل وخصومهم. دعوني أعرض لكم مثالا أحدث. لقد قيل إن سعيد جليلي (المرشح الرئاسي الإيراني) يحظى بالدعم من الحرس الثوري وقوات الأمن وآية الله مصباح يزدي، والأهم أنه مدعوم من قبل آية الله خامنئي. وأشار جليلي مؤخرا إلى أنه يرغب في اقتلاع الشيوعية والليبرالية والعلمانية في العالم من جذورها! على سبيل المثال، غيرت حكومة تركيا، التي تعتبر دولة الجوار المباشرة لإيران، صورة الدولة والشعب التركي في العقود الأخيرة. في عام 2004، بلغ نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في تركيا 8 آلاف دولار، والآن يبلغ 17.279 دولارا. على الجانب الآخر، قبل ثماني سنوات من الآن، حينما تولى أحمدي نجاد منصب الرئاسة في عام 2005، بلغ نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي 6.367 دولارا. باختصار، يمكننا القول إن اقتصاد تركيا أقوى بقيمة ثلاثة أمثال من اقتصاد إيران. وتجدر الإشارة إلى أن الدعامة الرئيسة لاقتصاد إيران هي النفط. وهذه هي نتيجة حكم الحرافيش في إيران ووجود حكومة حصيفة في تركيا.

منذ ثلاثة أسابيع كنت في إسطنبول؛ وكنت أستقل مترو الأنفاق متجها إلى ميدان تقسيم لزيارة معصوميت موزه سي في شارع استقلال، وكان هناك شاب وفتاة إسرائيليان يتحدثان العبرية. قال الشاب إن تركيا، بوصفها قوة ناشئة ودولة متقدمة، ستمثل تهديدا خطيرا لإسرائيل! فسألته الفتاة «وماذا عن إيران؟»، فأجابها بأنه «لا ينبغي أن يخالجنا شعور بالتهديد من شعارات معادية، وإنما يجب أن نقلق من التطور والتنمية».

كان هاشمي رفسنجاني هو أيقونة التطوير والبناء في إيران، وقد تم استبعاده من سباق الانتخابات الإيرانية من قبل الحكومة وأجبر على ترك المشهد لصالح الحرافيش. في لقائه الأخير بالإصلاحيين في مكتبه، قال «إننا نواجه الخوارج في إيران». دعوني ألخص لكم التاريخ الطويل، الخوارج مثل الحرافيش، النقطة المشتركة بين الجانبين هي الجهل والقبضة الحديدية والفساد. تذكروا أيضا صدام والقذافي والعديد والعديد من الأمثلة الحية الأخرى.

بلغ معدل النمو الاقتصادي في إيران 0.36 في المائة في عام 2012، مما وضعها في المرتبة الـ164 بين دول العالم، ويعتبر هذا إنجازا للحرافيش. إنه نتاج الحرافيش، مئذنة غريبة الشكل من دون مسجد.

هناك عبارة مميزة لنجيب محفوظ قد تكون مفتاحا لاكتشاف الرواية:

«في البدء كانت اللعنة.. والآن الجنون» - (الحرافيش ص: 205).