الحق والزور

TT

منذ 32 سنة، كتبت هذه الحكاية في نفس هذا المكان، أترى كم أنا قديم.. في الغالب، حكيتها لوالدك من قبل وأحكيها لك اليوم، والحكاية يا سيدي عن الحق والزور، كانا يمشيان معا، ولطول الرحلة شعرا بالإجهاد، غير أن الحق - كما تعرف - قوي لا تبدو عليه علامات التعب، أما الزور فهو ضعيف، لذلك توقف وقال: يا صديقي.. أكاد أموت من فرط التعب.. تسمح تشيلني.. تسمح لي أركبك؟

فصاح فيه الحق: ماذا.. الزور يركب الحق؟! الأقرب إلى العقل والبداهة، أن أركبك أنا..

اختلفا، واحتدا على بعضهما البعض، وفجأة قال الزور: اسمع يا صاحبي.. الديمقراطية هي الحل.. ولننزل على إرادة الناس.

وافق الحق ليقينه بأن الناس بطبيعتها تقف مع الحق، وبدآ حملات الدعاية الانتخابية بكل نزاهة، صاح الحق: يا ناس.. أنا الحق ومنافسي هو الزور.. ونحن نشعر بالتعب.. لا بد أن يحمل أحدنا الآخر.. يعني لا بد أن يركب أحدنا الآخر.. من يركب.. أنا أم هو؟

فصاحت الناس صيحة قوية اهتزت لها الجبال: الحق هو اللي يركب.

وينهي الحكاء حكايته بالقول: ومن يوميها والحق راكب، بس الزور هو اللي ماشي..

يا لعبقرية الحكاء المصري القديم! ويا ليأسه أيضا! ويا لقدرته على التلخيص والتكثيف! هو لا يرى الحق منعزلا عن الباطل، هما يمشيان معا، وعليك أنت مسؤولية عزلهما عن بعضهما البعض، لا بد أن تعرف الحد الفاصل بينهما، لا بد أن تعرف متى تنتهي حدود كل منهما، واحترس عند سماع الأفكار الجميلة، ولا تتحمس لها على الفور.. عندما تطرح عليك فكرة أن الحق هو اللي يركب، فعليك أن تفكر في هذا الباطل الذي سيمشي على الأرض.. الأمر هنا يتعلق بالشعار المرفوع فوق الرؤوس والأكتاف، وأن السائد على الأرض ليس ترجمة أو تنفيذا لهذا الشعار. عليك أن تتمسك بالحق، ولكن عليك أيضا أن تحترم قدرات الباطل، فالشر أيضا يتسم أصحابه بالعبقرية، منذ البداية كان الزور يعمل على أن يسود «يمشي على الأرض»، هو لم يكن يريد الركوب، كان يريد السيادة على الأرض، ولأنه يعرف ضعف الحق أمام إرادة الناس، لذلك طلب الاحتكام إلى أصوات الناس فوافق الحق الساذج على الفور لكي ينتهي الأمر، بينما كان الزور يخطط للوصول إليه بدهاء طول الوقت.

الشعار الجميل العادل الراكب أو المرفوع عاليا، الذي يتناقض مع كل ما يمشي على الأرض، ليس إذن مشكلة جديدة في مصر أو من صنع الزمن المعاصر، بل هي مشكلة قديمة قدم الزمن، وربما هي مشكلة الجماعة الإنسانية كلها منذ أن عرفت الاستقرار وبدأت تفكر وتمارس أنواع الحكم. لا بد من قدرات عقلية نقدية تحمي بها نفسك من أصحاب الباطل وتمنعهم من ممارسة خداعك، وهناك طريقة اكتشفتها وإن كنت لم أسجلها بعد باسمي في الشهر العقاري.. استمع لكل الشعارات.. ولكن دقق في ملامح صاحبها.. عندما تحدثك نفسك بأنه شخص شرير، صدق حدسك على الفور، حتى لو كان أعوانه بمئات الألوف على الـ«فيس بوك».