بعد 46 سنة... دخلنا حقا مرحلة «الدول الفاشلة»

TT

كل 5 يونيو (حزيران) وأنتم بخير.. وصدق القائل:
رب يوم بكيت منه فلما

صرت في غيره بكيت عليه!

زلزال 5 يونيو كان أسوأ بكثير مما حاولنا إقناع أنفسنا به، غير أن أسوأ ما فيه هو أننا أخفقنا في استخلاص العبر منه، ولذا كان بداية لسلسلة من «النهايات» المأساوية المتعاقبة.. بدلا من أن يطلق شرارة صحوة كنا في أمس الحاجة إليها.

ثم كان أحد أسوأ الأوهام التي صنعت على تداعيات ذلك الزلزال «الانتصار» الوهمي الفظيع يوم 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وهو زلزال ثان أجهز على البقية الباقية من أحلام - أو أوهام، في لغة المتشائمين - كانت لا تزال تدغدغ مخيلات شعوبنا، وترفع معنوياتهم، وتقنعهم بأن العيب ليس في أن تسقط... بل في أن تيأس من محاولة النهوض.

إذا أمعنا النظر في حال المنطقة العربية اليوم يتضح لنا كم كان الخطأ كبيرا في الهروب إلى الأمام وتجاهل حقيقتين جوهريتين تشكلان الأرضية الضرورية لأي نهضة، هما: أولا احترام حقوق الإنسان، وثانيا تحصين هذه الحقوق وصونها عبر مؤسسات وآليات تسمح بالتداول السلس والمنتظم للسلطة.

حدود الكيانات، أي كيانات في العالم، لم تهبط من السماء بمظلة، بل رسمتها موازين قوى عالمية. وإحداث تغيير في هذه الحدود أو تلك لا يجوز أن يكون نهاية في حد ذاته. ودول عديدة أمامنا اليوم في أوروبا «أم الديمقراطيات»، تعيد رسم حدودها بطريقة أو بأخرى من دون أي تأثير سلبي على واقع الإنسان وحقوقه، بل العكس هو الصحيح.

فاتسلاف هافل لم يستخدم الجيش للمحافظة على كيان تشيكوسلوفاكيا السابقة، بل احترم رغبة السلوفاكيين بالانفصال عن التشيك في طلاق ودي... خفف كثيرا من سلبياته التوسع الإرادي لمظلة «الاتحاد الأوروبي» الكبيرة.

وفي بريطانيا ارتفعت خلال السنوات الأخيرة أسهم الحزب القومي الأسكوتلندي الذي يدعو لاستقلال أسكوتلندا، وفي المقابل، ينشط في مناطق أخرى من بريطانيا حزب استقلال المملكة المتحدة المنادي بانسحاب البلاد من أسرة «الاتحاد الأوروبي». وفي حالتي الحزبين لا إرغام ولا سلاح ولا تخوين... بل احتكام إلى المؤسسات في ظل احترام الرأي الآخر.

وفي إسبانيا، هناك سباق دائم بين دعاة الانفصال عن الكيان الإسباني الاتحادي (الفيدرالي) والمطالبين بتعزيز مفهوم الفيدرالية الموجودة أصلا، وهنا أيضا بعد سنوات من العنف العبثي في بلاد الباسك، قطع احترام الغالبيات الشعبية مفهوم «الحكم الذاتي» عبر طريق صناديق الاقتراع الطريق على دعاة العنف وأسقط ذرائعهم وادعاءات مظلوميتهم.

غاية القول، أن في المجتمعات الواعية ثمة حرصا دائما على التوافق، وتنظيم الاختلاف تحت قبة الدستور والمصلحة العامة ومبادئ العدل والمساواة للجميع في الحقوق والواجبات.

بعد 46 سنة من زلزال 1967 ها نحن نواجه الآن خطر تعدد «الدول الفاشلة» على امتداد المشهد العربي. من العراق وسوريا ولبنان، إلى السودان واليمن وليبيا، نحن أمام مشاريع تقسيم وتفتيت منجزة فعلا أو مرتقبة. وحتى بعض الدول الأخرى ما عادت بمنأى عن تشنج داخلي يقوم على الخطاب التقسيمي - التفتيتي نفسه الذي أجهز على مفهوم «الدولة» كما نعرفه... ونشاهده اليوم في مشاريع «الدول الفاشلة».

مما لا شك فيه أن المسؤولية الأولى والأخيرة في هذا الحال التعيس تتحملها شعوب المنطقة وقياداتها وتنظيماتها الشعبية والحزبية، ولكن إذا كان هناك من أعذار تخفيفية فهي أن التأثيرات الإقليمية والدوافع الدولية سهلت الوصول إلى ما وصلنا إليه؛ فمواقف القوى الدولية الكبرى إزاء شعوب المنطقة كانت، وما زالت، أبعد ما تكون عن النزاهة، والرغبة في التفهم والتفاهم.

التبني الأميركي المطلق والمزمن لمواقف إسرائيل تحت ذريعة «المحافظة على التوازن الاستراتيجي» في الشرق الأوسط إبان فترة «الحرب الباردة» - بما في ذلك في أكتوبر 1973 - تبلور بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، فبات هدف واشنطن «المحافظة على التفوق النوعي» الإسرائيلي.. من دون بذل أي جهد لوقف تكاثر المستوطنات وتوسعها، ومعها تنامي الإحباط والمرارة في الأراضي الفلسطينية وخارجها. ومن ثم، بدأ العد العكسي لانهيار الاعتدال العربي. وهكذا تبين أن احتكار واشنطن «أوراق اللعبة» في المنطقة، كما كان يقول أنور السادات، كان عاملا أعطى التطرف العربي والإسلامي صدقية لا يستحقها.

واليوم نرى الطريقة التي تتصرف فيها روسيا إزاء المأساة السورية، فنجد أنها لا تكاد تختلف بشيء عن التصرف الأميركي الدائم حيال الأزمة الفلسطينية.

نحن أمام حالة بشعة من الغطرسة والعناد والاستخفاف بالدماء والمعاناة الإنسانية يستحيل تبريرها بغير الانتقام من واشنطن، وابتزازها عبر التحالف المباشر وغير المباشر مع نظام إيراني ثيوقراطي لا قواسم مشتركة بينه وبين ما تزعم روسيا الليبرالية الحالية تمثيله.

كلام فلاديمير بوتين بالأمس عن حتمية «فشل أي تدخل عسكري في سوريا»، معطوفا على «إبداء الأسف» الأميركي من تفاقم الوضع - كما جاء بالأمس على لسان جون كيري - ثم الإعلان البريطاني عن أن أي تفعيل لقرار رفع الحظر عن تزويد المعارضة بالسلاح يعتمد على «جنيف2»... كله يضيف إلى قتامة الصورة، ويعزز المنطق الأعوج للتطرف. فلا قيمة للدم السوري، ولا اكتراث برغبة المعتدلين على امتداد المنطقة في التعايش، ولا تحرج من تسليم الحكم في دول مأزومة أصلا إلى قوى إلغائية واجتثاثية لا تملك حلولا ولا تعبأ بالمشاركة ولا تقبل بالرأي الآخر.

وسط كل هذه الـ«لاءات» المؤلمة تعود إلى الذاكرة... الـ«لاءات» الأخرى عام 1967 في الخرطوم، عاصمة السودان.. قبل تقسيمه!