إديني عقلك

TT

أفكر في أن كل عقول البشر خلقها الله بمواصفات واحدة، وبقدرات متساوية، تماما ككل عضو من أعضاء الجسم البشري، وبذلك يكون عقل الشاويش عطية في أفلام إسماعيل يسين، مساويا في قدراته تمام المساواة للجنرال مونتغمري وروميل. وقبل أن تتصور أنني أستهين بالإنجازات العظيمة للعقل البشري أقول لك، مع الاحترام الواجب للعقل، لا بد من الاعتراف بأن النفس هي المحرك الأصلي والأصيل للعقل، وأنه في غياب نفس سوية من الممكن أن يتحول العقل بكل ما يحويه من علم ومعرفة إلى آلة دمار. ما صنع كل إنجازات هذه الحضارة ليس أصحاب العقول العظيمة، بل أصحاب النفوس الجميلة. ليس هذا بعيدا عن المقولة الشهيرة أن وراء كل عظيم امرأة، نعم وراء كل عقل عظيم نفس جميلة تحب الحياة وتحرص على الدفاع عنها، وفي غياب هذه النفس أو ضعفها يتحول العقل إلى أداة خربة مخربة. المعرفة في حد ذاتها ليست سبيلا للنجاة، نجاتك ونجاة الآخرين من شرورك، بل الخير الراقد في أعماق نفسك هو ما يجعلك تساهم في جعل الحياة أكثر خيرا وسلاما. أعرف مهندسا شابا درس في أعظم جامعات العالم، وربما كان تخصصه هو أجمل التخصصات وهو هندسة المدن، هذا الشاب قاد جماعتين من أقرانه، وطارا بطائرتين اقتحمتا مبنيين عاليين ليقتلوا آلاف البشر. من المستحيل أن تجد داخل العقل البشري مصدرا تنبع منه الرغبة في قتل الناس، ولكنك ستجد نفس المصدر داخل النفوس الخربة.

العقل يلعب دورا سلبيا في تلقي المعرفة، أما النفس فهي تتلقى هذه المعرفة وتتجاوب معها وتقوم بتحويلها إلى إنجاز خير على الأرض. قد تعرف أن المياه، مياه الشرب ومياه الري لا تصل إلى القرى الفلانية والمزارع العلانية، وأن الناس والأرض يصرخون من العطش، قد تصل هذه المعلومة إلى عقلك وتسكنه ثم تتمدد وتنام فيه مستريحة، أما نفسك، عندما تكون ناضجة فسوف تشعرك بالألم وتدفعك إلى بذل الجهد كل الجهد لتخليص الناس من هذا الجحيم. العقل عند ضعاف النفوس يسمح بتمرير كل أنواع الشرور، يسمح لك بتلويث النهر وإفساده وتحويله من مصدر للحياة إلى مصدر أكيد للموت. أما النفس الأبية (لاحظ الصفة في اللغة العربية) فهي تأبى أن تسمح لك بذلك.

عندما تقرأ جرائد الصباح وتعرف أن بلد النيل، يشكو من انعدام أو قلة أو شح مياه الري والشرب، كيف تطيب نفسك إلى هذا النوع من الحياة، والله لو أن ملائكة من السماء نزلت وأخذت في تطهير النيل من السموم، لسوف تسمع في الفضائيات في المساء عددا من المفكرين يحذرون وينبهون الناس إلى ألاعيب الإمبريالية، وليس ببعيد أن تستمع لأحد الشهود يقول: نعم.. كنت أجلس مع خطيبتي على شاطئ النيل.. واستمعت إلى هؤلاء الملائكة وهم يتكلمون مع بعضهم البعض بصوت هامس.. كانوا يتكلمون الإنجليزية بلهجة أميركية.. كانوا يقولون.. بعد ما نطهر النيل.. نبتدي نقسم مصر ونفتتها وندغدغها.. يجب ألا يشعر المصريون بالراحة.. لأنهم إذا ارتاحوا حا يخلصوا علينا..