العولمة والمقاومة

TT

ليس البتة صحيحا أن حديث العولمة مما يكاد العرب ينشغلون به، كما يتوهم البعض ذلك، وليست العولمة تحضر في معرض الشكوى والتذمر في الفكر العربي أكثر مما هي عند غيره - كما رأينا البعض يؤكد ذلك في بعض الدوريات والمنابر؛ ذلك أن حديث العولمة لا يكاد يخبو في المنابر وفي المنتديات الفكرية في بلدان الغرب الأوروبي، إلا ليعود إلى الواجهة والسطح. لا بل إن العولمة والقول فيها سلبا وإيجابا يشكل موضوع مواكبة يومية من قبل الفكر الغربي المعاصر، والأصح أن نقول أكثر مما يفعله العرب، لا بل إننا لا نعرف في الساحة الفكرية العربية مرصدا عربيا - شهيرا على الأقل.

نقول هذا بدلالة المواقع الإلكترونية العديدة وبدلالة المراصد العلمية المتنوعة. يكفي لمن كان مترددا في قبول هذه الحقيقة أن ينقر على الشبكة اللفظ الإنجليزي globalisation حتى يفاجأ بوفرة المواقع والمراصد، ونحن نلاحظ أنه لا تكاد تنصرم سنة جامعية من دون أن نتبين صدور دراسات وأعمال ندوات كثيرة في موضوع العولمة وما يتصل بها. وقد يلزم أن نذكر أيضا أن العولمة قد غدت من الموضوعات الكلاسيكية عند علماء الاجتماع؛ فهي تفرد بالدراسة في الكليات والمعاهد (ولعلي أهتبل المناسبة فأنوه بأن هنالك من الجامعات في العالم العربي ذاته من يخصص لها مساقات مفردة، كما أن من تلك الجامعات من يجعل من العولمة مادة لشهادة الماستر).

يمكن الحديث عن نزوع قوي، في الفكر الغربي أساسا، وعلى العكس مما يعتقده الكثيرون منا خطأ وقصورا في الفهم، إلى الشكوى والتذمر والتنبيه إلى المخاطر التي تتهدد الهويات القومية في مقابل المد الجارف للعولمة. يمكن الحديث، في الحد الأدنى من القول، عن دعوات بأصوات مختلفة ومن مواقع متنوعة، إلى المقاومة - مقاومة العولمة.

يجأر الوعي العربي المعاصر بالشكوى من العولمة ويفيض بالحديث عنها باعتبارها قدرا مقدرا عند البعض، فنحن لا نملك إلا أن نتجرع حكمه في صمت واستسلام، ويسود بياض الصفحات عند البعض الآخر بسب ولعن للعولمة ولمن خلفها، وترتفع الأصوات بالدعوة إلى طرح العولمة جانبا وإلى الانصراف عنها، وقلما يبدو هنالك إدراك صحيح لصورة العولمة وحقيقتها في العالم الذي نحيا فيه.

نعم، إن العولمة تقتضي المقاومة لأسباب قوية سنقف عند البعض منها في الفقرة الموالية - بيد أن علينا أن ندرك أن المقاومة أصناف، وأنها تحمل نعوتا متعددة، وأن من المقاومة ما هو صالح ضروري ومرغوب فيه، مثلما أن منها ما هو عبث لا طائل من ورائه، وأن من أصنافها ما يجعلنا في وضع شبيه بحال النعامة التي تدفن رأسها في رمال الصحراء حتى لا ترى الذي يجري وراءها بغية الإمساك بها وجعلها قيد الأسر أو القتل.

لعل أكثر الأمور مدعاة للوضوح والفهم، ومن ثم تبني الرأي الصائب، هو أن نعود بين الفينة والأخرى إلى الأوليات.

لعل أقرب نعوت العولمة (وليس تعريفها؛ إذ التعريف يظل دوما مدعاة لجدل شديد في كل الأحوال التي يتعلق فيها الأمر بالوجود البشري) هو ذاك الذي يقضي بأن العولمة نمط جديد من العلاقات الاقتصادية والسياسية له انعكاسات مباشرة على الوجود الاجتماعي الثقافي، وبالتالي تأثير على عالم القيم والتصورات العامة للكون.

القول إنها نمط جديد من العلاقات قول يعني وجود جدة مطلقة لم يسبق لها نظير في التاريخ البشري، وفي عبارة أخرى فإن العولمة قد أحدثت في الوجود الاجتماعي والثقافي للإنسان، نتيجة لما شهده الاقتصاد أولا ثم السياسة ثانيا، حالا لا يصح اعتبار ما حدث من قبل تمهيدا له، ليس يصح القول مثلا إن العولمة، في دلالتها السياسية، إنما هي امتداد للهيمنة الاستعمارية في القرون القليلة الماضية. هذا المعنى يحمل على التنبيه إلى الأمور الثلاثة التالية: الأول أن العولمة متصلة عضويا بما عرفته عوالم الاتصال من تطور تكنولوجي خارق للعادة، تطور ذوب الأبعاد والمسافات وأحال العالم إلى «قرية شمولية» - كما كان الحكيم الرواقي الأول يقول. والثاني أنها عمقت الفروق على نحو خارق للعادة بين الدول الغنية والدول الفقيرة. والأمر الثالث أنها تسعى إلى فرض نموذج واحد، بل أوحد في السلوك وفي الوجود، وبالتالي إلى فرض نموذج ثقافي، والعمل من ثم على إقصاء النماذج الأخرى.

لنقل، في عبارة أخرى، إن العولمة تسعى بهذا الصنيع إلى تهديد الهوية تمهيدا للقضاء التام عليها، ضمنا أو صراحة - بالنموذج الوحيد الممكن عالميا أو النموذج الأوحد في الزمن المعاصر. ذلك هو المغزى البعيد لحديث فوكوياما عن نهاية التاريخ؛ إذ بلغت الإنسانية مع الديمقراطية على الطريقة الغربية غاية ما يمكن أن يبلغه البشر من التطور السياسي. وذلك مغزى التقرير الذي ينتهي إليه صامويل هنتنغتون؛ إذ يذهب إلى أن الصراع قد أصبح، من الآن فصاعدا، صداما بين الحضارات الكبرى، وعلى وجه الخصوص بين الغرب، من جانب أول، وبين الإسلام من جانب ثان، وبين الغرب والصين من جانب ثالث.

حيث يكون الأمر كذلك، وكانت الهوية الثقافية في موقف الخطر الذي يتهدد وجودها، فإن المقاومة تغدو مشروعة، بل إنها تصبح واجبة، وهذا أمر بديهي، ولربما استوجب توضيحه إفراد حديث خاص نعرج فيه على الآراء المختلفة في الموضوع، وهذا مما ليس يتسع له مجال قولنا اليوم. بيد أننا نمضي فنتساءل بكيفية عملية: ما المنحى الذي يتعين سلوكه في حالنا العربي اليوم في من يعتبره مقاومة مشروعة؟ الرأي عندنا أن الأمر لا يخرج في نهاية المطاف عن اتخاذ أحد مسلكين اثنين: مسلك أول سلبي محض بل عدمي، هو ذاك الذي يقوم في الاطمئنان إلى الزعم الكاذب الذي يتوهم صاحبه أن في الإمكان أن «نصرف الذهن» عن العولمة وأن «ندير لها الظهر». والمسلك الثاني إيجابي وعملي، هو ذاك الذي يكمن في الانخراط الواعي في العلم والانتساب الكامل إلى العصر. ذلك أن الشأن في العولمة لا يتعلق بولوج سوبر ماركت نتبضع منه ما نريد ونصرف الذهن عما ليست لنا به حاجة، فلسنا نجد لهذا الرأي نعتا يختلف عن العبث والسفه معا. كما أن الانتساب إلى العالم لا يعني في شيء التفريط في الهوية الثقافية المميزة.

قد يكفي في ذلك أن نتأمل في موقف الشراسة والتحفز الذي نجده من الفرنسيين عموما (مثقفين ورجال سياسة، في المعارضة كانوا أو في السلطة) والذي يتخذونه من «الاستثناء الثقافي»، بمعنى أن الهوية الثقافية الفرنسية - في تجلياتها المتنوعة - خط أحمر لا يمكن مجاوزته. وإذن فليس هنالك ما يبرر ما يطلب من العرب أحيانا من التفريط في الهوية الثقافية المميزة.