الحكومة الفلسطينية.. تتبدل الشخوص والهم واحد

TT

أسدلت الستارة عن فصل مثير من دراما الزعامة الفلسطينية، فقد غادر الرجل المثير للجدل سلام فياض موقعه رئيسا للوزراء في فلسطين، وحل محله الدكتور رامي الحمد الله، رئيس جامعة النجاح، الذي كلما احتاج الفلسطينيون إلى رجل يحتل موقعا ويلقى قبولا فهو على الدوام الأوفر حظا والأكثر تداولا. وفي حياة الدكتور رامي مأساة إنسانية أدمت قلوب الفلسطينيين، إذ فقد كل أبنائه في حادث سير مروع، إلا أنه نهض من هذه الكارثة، وعوض المأساة بالعمل والإبداع، فكانت جامعة النجاح في عهد رئاسته قصة نجاح فعلي، وكانت قاعدة الانطلاق لرئاسة الحكومة، كما كانت كذلك لمواقع أساسية عدة. وكثيرون يحتلون مواقع كبرى بعد نجاحات لافتة في مواقع أصغر: شيراك انتقل إلى رئاسة فرنسا من رئاسة بلدية باريس، وأردوغان انتقل إلى زعامة تركيا من نجاح في بلدية إسطنبول، ولو بحثنا في خلفيات الزعماء ورجال الدولة لرأينا أن معظمهم - إن لم يكونوا جميعا - مروا من الممر ذاته.

غير أن رئيس وزراء فلسطين أمر مختلف كليا عن كل الرؤساء، ذلك أن جملة رئيس وزراء، وخصوصا حين يسبقها من قبيل التفخيم مفردة «دولة»، لا تستقيم في مضمونها الفعلي مع واقع رئيس وزراء فلسطين، فمن يكلف هذا الموقع يجد نفسه مطالبا بأضعاف ما يطالب به غيره من رؤساء الوزراء في الدول العادية، أي إن فرص الإخفاق تظل أكبر.

ومع أهمية أن يكون رئيس وزراء فلسطين رجلا مؤهلا من جميع النواحي - مهنيا وسياسيا وشخصيا، إلا أن هذا التأهيل مهما بدا قويا ونموذجيا يظل محدود الأهمية في توفير فرص نجاح مضمونة.

وهنا، يتعين علينا أن نلقي نظرة فاحصة على تجربة الدكتور سلام فياض التي ينبغي أن يتمثلها الدكتور رامي الحمد الله جيدا، لما فيها من دروس وعبر. لقد جاء سلام فياض إلى مواقعه الفلسطينية بعد تجربة غنية في مجال الإدارة والمال، حتى أصبح في عهد عرفات وزيرا للمالية، وفي عهد عباس رئيسا للوزراء، ولقد حصل فياض في البداية على دعم كامل متكامل من الفلسطينيين والعرب والأميركيين والأوروبيين، وحصد شهادات جودة أداء لم يحصل غيره على نصفها، وفي معظم استطلاعات الرأي الأجنبية كان يحتل مواقع متقدمة في سجلات الشخصيات الأكثر تأثيرا في العالم، إلا أن هذا الرجل الذي ملك كل هذه الدعامات، وجد نفسه أخيرا يحصل على نسب أدنى في الاستطلاعات المحلية، ويتوالد له خصوم كل يوم، من حركة فتح التي يفترض أنه رئيس حكومتها بوصفها الحزب الحاكم في الضفة الغربية، ومن فصائل منظمة التحرير التي منحته الشرعية ووفرت له الغطاء السياسي. ذلك فوق الخصومة التقليدية والمغلقة التي جسدتها حماس ضد هذا الرجل مهما فعل لمجرد أنه منافس في الشرعية والنفوذ لحكومتها المقالة في غزة.

ولقد صمد فياض طويلا في وجه الخصوم الداخليين، وتحمل شراسة الهجوم عليه، والاتهامات التي بلغت حد المس بانتمائه وليس مجرد أدائه، وشاهدنا صورا كثيرة أحب كثيرون تفسيرها على أنها مقدمة لربيع فلسطيني ضده بالذات. كان فياض يطالب بتقديم المرتبات في موعدها، ويدان إذا ما اضطر إلى الاستدانة من أجل ذلك.

وكان يتهم بالحظوة عند الأميركيين والأوروبيين، فيشكر إذا ما جلب دعما منهم، ثم يذم في اليوم التالي بتهمة ارتمائه في أحضانهم، وفوق ذلك يسدد فواتير إشادتهم به. وبعد صمود طويل ومكابرة أطول، ومحاولات لإدخال الجمل من ثقب الإبرة، قرر الرحيل عن الموقع، والابتعاد عن الواجهة، تاركا للزمن إصدار الحكم الأخير عليه وعلى أدائه. ففي فلسطين، وربما في العالم كله، يقوم المسؤول بالمقارنة مع أداء غيره، وهذا ما سنراه خلال الشهور المقبلة.

ولو جاز لي تقديم تفسير لما حدث مع الدكتور سلام فياض لقلت: إن الرجل ذهب ضحية محاولته المستحيلة في الفصل بين السياسة والإدارة والمال، ذلك أن مشروع التسوية على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي، يقوم على دعامة رئيسة وجوهرية، هي الدعامة السياسية التي توفر حياة للدعامات الأخرى ومن ضمنها المال والإدارة والتنمية، وكلما تعثرت الدعامة السياسية واهتزت، ظهر عجز لا مخرج منه في أمر الإدارة والمال، ولا نستبعد الأمن في هذه المعادلة، وهذه المعضلة التي حاول سلام فياض تجاوزها، حين عرض برنامج الاعتماد على الذات، سجلت عليه فشلا لمجرد أنه عرض الفكرة، مع أن الذي أدى إلى الفشل هو تعثر الصيغة السياسية وليس تعثر الأداء الحكومي.

ما يواجه الحمد الله هو التحدي ذاته، وتشابه الممرات الإجبارية التي يتعين على أي رئيس وزراء فلسطيني أن يسلكها، وبصرف النظر عن استنتاجاتنا المبكرة أو المتسرعة في النجاح أو الفشل، إلا أن الحقيقة التي تحكمنا جميعا تقول..

وإن تبدلت الشخوص يظل الهم واحدا...