توتر «نهضوي» ـ أميركي

TT

إن البيان الشديد اللهجة الذي أصدرته سفارة الولايات المتحدة الأميركية في تونس حول الأحكام القضائية المتعلقة بالمتهمين في أحداث السفارة والمدرسة الأميركيتين يوم 14 يناير (كانون الثاني) 2013، إنما يشكل نقطة مركزية في ضوئها يمكن توصيف العلاقة الراهنة بين الولايات المتحدة وحركة «النهضة» الماسكة اليوم بأغلبية الحكم في تونس.

ولا يعنينا في هذا البيان اعتراض أميركا على الأحكام القضائية (مدة العقوبة حددت بسنتين غير نافذتين) باعتبار أنه اعتراض يمثل جزئية من موقف شامل يطغى عليه التقويم غير الإيجابي لأداء النخبة السياسية الإسلامية ذات الأغلبية في الحكم.. بل إن الأكثر أهمية في البيان المشار إليه هو أنه بمثابة المدخل لرصد العلاقات الخارجية لحركة «النهضة»، خصوصا أن تاريخ تونس السياسي منذ الاستقلال إلى اليوم، يهتم بمسألة العلاقات الخارجية اهتماما مخصوصا، ويعتبرها معطى حاسما في تحديد خياراتها ومواقفها الاقتصادية منها والسياسية.

غير أن الواقع الحالي يشير إلى أن النخبة الحاكمة حاليا، وتحديدا الإسلامية منها، قد وجدت نفسها أمام علاقات خارجية تشوبها مشكلات عدة.. ذلك أن العلاقة الراهنة مع الولايات المتحدة متوترة، بدليل البيان شديد اللهجة، وأيضا العلاقة الباردة والحذرة مع فرنسا، مما يعني أن التوتر المعلن تارة والمسكوت عنه في أحايين كثيرة هو ما يميز علاقة حركة «النهضة» بأقوى دولة في العالم، أي الولايات المتحدة، من جهة، وفرنسا الحليف التقليدي والتاريخي الاستراتيجي من جهة أخرى.

ولعل تفكيك ظاهرة التوتر المشار إليها ضرورة في مثال حركة النهضة، حيث إننا أمام نوعين من التوتر؛ توتر مع أميركا حاصل ضد إرادة «النهضة»، وتوتر مقصود بشكل أو بآخر مع الجانب الفرنسي.

كما أن التمييز بين النوعين من التوتر، يفيد في فهم إلى أي مدى يمثل توتر علاقة حركة «النهضة» مع الولايات المتحدة، تهديدا حقيقيا لآفاق الإسلاميين الحاكمين السياسية؟

لا تخلو العلاقة مع فرنسا من مجموعة من المشكلات تبدو في الظاهر سياسية وهي في الجوهر ثقافية فكرية آيديولوجية. وتاريخيا، كانت النخبة السياسية التي حكمت تونس إبان الاستقلال محسوبة على فرنسا، إضافة إلى أن المشروع الحداثي الذي قامت عليه الدولة الوطنية قد استلهم قيمه ومبادئه من الثقافة الفرنسية.

لذلك، فإن من دواعي نشأة حركة إسلامية في تونس في السبعينات من القرن الماضي هو نقد المشروع الحداثي للدولة واعتباره مشروعا علمانيا ضد تعاليم الإسلام، ويستندون في ذلك إلى مجموعة الإصلاحات التي قامت بها الدولة التونسية ذات الصلة بالدين.. ويقصد بذلك إصدار «مجلة الأحوال الشخصية»، وإلغاء الأحباس العامة والخاصة والمشتركة، وإلغاء التعليم الزيتوني والمحاكم الشرعية واستبدال أخرى وضعية بها.

أما من الناحية السياسية، فإن فرنسا في ذهن الإسلاميين تعتبر حليفا تاريخيا لليسار وللقوى الحداثية في تونس. ويمكن القول إن تصريحات ساخنة من الجانب الفرنسي قد أذكت هذه الرؤية وضاعفت من البرود «النهضوي» - الفرنسي، ومن هذه التصريحات ما جاء على لسان وزير داخلية فرنسا إبان اغتيال شكري بلعيد، الذي عبر عن انزعاجه من القوى الظلامية. ولقد رد الإسلاميون بعبارات لا تقل شدة، واصفين تصريح وزير الداخلية بالخطير وبأنه «يخفي عقلية استعمارية».

وفي خضم هذا البرود، نلاحظ أن النخبة الإسلامية الحاكمة أحدثت تغييرات في طبيعة علاقاتها الأوروبية جاعلة من ألمانيا مدخلا لأوروبا بدلا من فرنسا.. ففي فترة رئاسة حمادي الجبالي للحكومة، كانت ألمانيا أول دولة أوروبية يزورها. وها هو علي العريض رئيس الحكومة الحالي يستعد لزيارة ألمانيا.

والظاهر أن محاولة إعادة صياغة وترتيب علاقات تونس الأوروبية أحد الأسباب الكامنة وراء زيارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند المرتقبة إلى تونس، علما بأنها الزيارة الأولى لهولاند رغم أنه سبق أن زار الجزائر والمغرب.

لقد آثرنا التوقف عند علاقة حركة «النهضة» بفرنسا كي نستطيع أن نحدد بأكبر دقة مدى أهمية علاقة إسلاميي تونس بالولايات المتحدة.. فمن الواضح أن استراتيجية هؤلاء بخصوص ملف العلاقات الخارجية، قليلة الخيارات؛ إذ جرى وضع كل البيض في سلة أميركا، ويعلقون آمال الدعم والقبول كلها عليها. وليس خافيا أن النخبة السياسية الإسلامية في تونس سعت منذ البداية إلى توثيق الصلة بالولايات المتحدة وتمرير الرسائل المطمئنة كافة؛ بل إن أميركا، التي كانت توصف في أدبيات حركة «الاتجاه الإسلامي» سابقا بـ«الشيطان الأكبر»، لم تتردد شخصيات «نهضوية» بارزة، بمن فيهم راشد الغنوشي، في القيام بعدة زيارات إليها قبل انطلاق انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011. ولقد كشفت، في الحقيقة، تلك الزيارات عن حدوث نقلة نوعية في فكر حركة النهضة، وعن مقدمة مشجعة للتعامل معها ومنحها الفرصة.

ولكن أحداث السفارة الأميركية مثلت جرحا عميقا لم تستطع أحكام القضاء التونسي ضد الفاعلين معالجته، حيث يحمل الجانب الأميركي السلطة الحاكمة المسؤولية، رافضا قراءة الأحداث ضمن سياق عام تعيشه البلاد.

لذلك، فإن هذا الغضب الأميركي ليس في صالح حركة النهضة ولا يخدم مستقبلها السياسي الذي من الصعب أن يزهر في ظل تضييقات أميركية وفرنسية.

فهل يدرك إسلاميو تونس حقيقة المعادلات ويقطعون الطريق أمام الجميع باتخاذ مواقف سياسية قوية ومفاجئة للداخل والخارج؟