انتصار.. أم خطوة نحو نكبات قادمة؟!

TT

ليس سرا أن إسرائيل تتمنى وتعمل لتدوم الحرب الأهلية في سوريا سنوات، وتتمنى امتداد شراراتها إلى الدول العربية والإسلامية كافة. فتفريغ سوريا من طاقتها القومية ومن قدراتها يشكل ضمانة سياسية وعسكرية لها، ولا سيما إذا انتهى الأمر، كما يتردد، بتقسيم سوريا إلى دويلات. فذلك يشكل هدفا استراتيجيا إسرائيليا دائما ألا وهو تفتيت المنطقة العربية إلى دويلات طائفية وعرقية ومذهبية صغيرة ومتناحرة، الأمر الذي يبرر وجودها العنصري الديني في المنطقة ويقضي على أي تكتل إقليمي كبير يهددها.

صحيح أن إسرائيل حائرة في تفضيلها بين نظام متحالف مع إيران ورافع لشعار المقاومة والممانعة، ولكن مستسلم عمليا لاحتلال الجولان، وبين حكم إسلامي مرشح ربما للمشاركة مع نظام إسلامي في مصر أو أن يكون طرفا في تكتل إسلامي - عربي مهدد لها. ولا شك في أن حيرة إسرائيل أمام الحرب الأهلية السورية تؤثر مباشرة على موقف الولايات المتحدة المصابة بدورها بحيرة أكبر أمام هذه الصفحة الجديدة والدامية من الربيع العربي الذي صفقت له واستسلمت لنتائجه، وأمام هذا التحدي الروسي - الإيراني السافر لها في سوريا والمنطقة.. فعلى الرغم من أن المصلحة الاستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط لا تتلاقى كليا أو دائما مع المصلحة الإسرائيلية، فإن تجارب الماضي علمتنا أن إسرائيل نجحت دائما في جر الولايات المتحدة إلى خدمة مصالحها الاستراتيجية.

لقد اعتبر نظام الحكم السوري ما حدث في مدينة القصير انتصارا عسكريا وسياسيا مجيدا (وزع حزب الله الحلوى في بيروت ابتهاجا بتدمير مدينة سورية وتشريد أهلها وقتل مئات العرب والمسلمين من أبنائها) واعتبر بعض الأوساط الغربية هذا «الانتصار» ورقة في يد النظام يحملها إلى مؤتمر «جنيف 2». ولكن أي فخر في أن يحتل جيش مؤلف من مائتي ألف جندي ومسلح بالدبابات والطائرات والصواريخ (دفع الشعب ثمنها) مدينة صغيرة يدافع عنها مقاومون لا يملكون سوى أسلحة خفيفة؟! وأي مجد في أن تتحول استراتيجية المقاومة والممانعة إلى حرب أهلية يقتل فيها يوميا المئات وتدمر فيها المدن ويشرد مليونا إنسان من منازلهم؟!

ثم ماذا لو حقق النظام وحلفاؤه انتصارات ميدانية أخرى؟! هل سيتمكن من حكم بلد هدم مدنه وشرد شعبه وقتل مائة ألف مواطن فيه؟! شعب منكوب ومشرد! بأي دستور وأي ديمقراطية؟! أم أنه سيتوج انتصاراته العسكرية باعتقال مائتي ألف معارض رفعوا الصوت والسلاح في وجهه دفاعا عن أنفسهم وكرامتهم وحريتهم؟!

سواء نجح مؤتمر جنيف أم فشل أم تأجل، فإن أي حل سياسي للمحنة السورية إنما يبدأ وينتهي بالتسليم بضرورة بل بحتمية تغيير نظام الحكم في دمشق. فبعد كل هذه الخسائر والتضحيات ليس معقولا ولا مقبولا ولا منطقيا استمرار نظام حكم أمني استبدادي. ولا أن تحكم الأقلية الأكثرية، ولا أن تبقى سوريا جسرا لبسط نفوذ إيران على المنطقة.

إن تدمير القصير وحمص وحماه وحلب ليس مقاومة ولا ممانعة. وكل مشاهد الدمار والضحايا التي تعرض على شاشات التلفزيون كل يوم ليست انتصارات مجيدة، بل جرائم ضد الإنسانية جعلت الكثيرين يعتقدون ويصرحون بأن الخطر الذي يهدد العرب والمسلمين لا يأتي فقط من إسرائيل.

منذ نكبة 1948 والجماهير العربية تعلق خلاصها ومصيرها - ومنه استعادة الحق العربي في فلسطين - بمشاريع سياسية أو عقائدية، مبتدئة بالتصفيق للانقلابات العسكرية، فالوحدة، فالقومية العربية، فالاشتراكية، فالآيديولوجيا الدينية الإسلامية. وكل مشروع لـ«إنقاذ الأمة» أو لـ«استعادة فلسطين» أو لـ«التحرر من الهيمنة الخارجية»، كان يقود إلى حروب يخسرها العرب وإلى مزيد من الانقسامات بين الدول العربية والإسلامية. والحرب الأهلية في سوريا هي الصفحة الأخيرة والأكثر دموية وخطرا فيها.. فلقد تستمر هذه الحرب سنوات إذا استمر تدخل الدول الكبرى والإقليمية فيها. وقد تشعل حربا مذهبية بين السنة والشيعة يمتد لهيبها إلى لبنان والعراق والأردن والخليج. وقد تتخذها إسرائيل ذريعة لتقوم بعدوان عسكري جديد أو فرصة جديدة لتغطية كل فلسطين بالمستوطنات.

لقد سمي ما حدث في فلسطين عام 1948 بـ«النكبة»، ولكن ما يحدث في سوريا اليوم إنما هو مدخل إلى نكبة عربية وإسلامية أكبر بكثير من نكبة فلسطين.