رد على مشاري الذايدي

TT

في مقال له سابق انتقد الأستاذ مشاري الذايدي بعض مواقفي الفكرية واعتبرني محبطا أكثر من اللزوم. في الواقع أن نقده موجه أولا إلى الباحثين الأجانب من أمثال جيل كيبل، ثم في المرحلة الثانية موجه إلى الباحثين العرب من أمثالي أنا. فلنتوقف منهجيا عند كلتا النقطتين. صحيح أن كيبل كان تروتسكيا في شبابه الأول أي كان يساريا متطرفا أو مراهقا. ولكنه تطور بعدئذ وأصبح واقعيا عقلانيا متزنا. ولولا ذلك لما استطاع تأليف كل هذه الكتب المتلاحقة التي أصبحت معروفة ومترجمة إلى شتى لغات العالم. لا أريد الدفاع عنه بشكل لا مشروط ولكن ينبغي الاعتراف بأنه دارس محنك ومسيطر على المنهج والمصطلح فيما يخص العلوم السياسية على الأقل. وكتبه التي كرسها منذ أربعين سنة للحركات الأصولية ألقت إضاءات لا يستهان بها على هذه الحركات بالذات. وهي ناتجة عن تحريات ميدانية لا عن تنظيرات مجانية. على أي حال فإنه لمن المفيد استشارة كتب الباحثين الأجانب وبخاصة إذا كانوا متعمقين بالموضوع ومن الاختصاصيين. فالنظرة البعيدة غير النظرة القريبة، النظرة الخارجية قد ترى فيك أشياء لا تراها النظرة الداخلية والعكس صحيح أيضا. وبالتالي فلا ينبغي أن نخلط بينه وبين الصحافيين المتسرعين الذين يعبرون عالمنا العربي من دون أن يكونوا متعمقين فيه. فهؤلاء يقدمون أحيانا صورة مشوهة عن عالمنا العربي الإسلامي حيث يوهمون بأن كل العرب متطرفون جهاديون فيخلطون بين الأقلية والأكثرية. وسائل الإعلام الغربية لعبت دورا سيئا بعد 11 سبتمبر (أيلول) وطالما اشتكى منها أركون بكل مرارة كما يفعل مشاري الذايدي هنا. ولكن ليست هذه هي حالة جيل كيبل أو أوليفييه روا أو سواهما من كبار الاختصاصيين بالموضوع. وأكبر دليل على ذلك أن منابر اليمين المتطرف شنت هجوما على كيبل متهمة إياه بمحاباة المسلمين والدفاع عنهم بأي شكل في فرنسا. وبالتالي فالرجل ليس معروفا في بلاده بكره الإسلام والمسلمين وإنما بالعكس! نعم لقد هاجمته إحدى الصحافيات الفرنسيات (كريستين تازان) بعنف لأنه «يتباكى على الفقراء المسلمين الذين تخلت عنهم الدولة الفرنسية في الضواحي البائسة» بحسب سخريتها. هناك نقيصة أساسية هي أنه لم يتعمق في التاريخ الإسلامي القديم كما فعل جاك بيرك أو أركون أو رودنسون مثلا. وبالتالي فلا يهتم كثيرا بالربط بين الحركات الأصولية الحالية وجذورها في الماضي البعيد. إنه مختص بالحاضر لا بالماضي ويحصر بحوثه ضمن شريحة زمنية لا تتعدى الخمسين سنة عموما. هذا من جهة، وأما من جهة أخرى فإن مشاري الذايدي على حق إذ يقول بأنه لا ينبغي تطبيق تجربة الغرب علينا: فلكل خصوصيته. ثم بشكل خاص لا ينبغي أن يطالبوا مجتمعاتنا بأن تحقق في عقود ما حققته مجتمعاتهم في قرون! يضاف إلى ذلك أن الحداثة العربية الإسلامية لن تكون نسخة طبق الأصل عن الحداثة الغربية. زواج الشواذ ليس قمة الحضارة كما يزعمون وإنما قاع الانحطاط! ولكني لا أختزل الحضارة الغربية إلى هذه المهزلة البائسة كما يفعل المتشددون.

أما فيما يخصني أنا فإن نقد مشاري يتلخص ضمنيا في هذه العبارة: «من المستحيل أيضا حصر المشكلة العربية في مجرد استعادة صراعات الماضي وحروب كربلاء وصفين». وهذا صحيح. ولكن يخطئ من يظن أن المشاكل المذهبية المندلعة حاليا لا علاقة لها بالماضي البعيد. لكل مشكلة من المشاكل أسباب قريبة وأسباب بعيدة. وينبغي الاهتمام بهما كليهما لكي تضاء المشكلة من كل جوانبها، بكل أبعادها. انتفاضة الشعب السوري، فك الله أسره وقصّر من محنته الكبرى ومعاناته، لها أسباب قريبة مباشرة وهي معروفة للقاصي والداني. ولكن من منا لا يرى أن تطورات الصراع قد بعثت من مرقدها كل انقسامات الماضي الطائفية والمذهبية ليس فقط في سوريا وإنما أيضا في العراق ولبنان وكل مكان؟ كل الموروث القديم راح ينفجر في وجوهنا كالقنابل الموقوتة. وبالتالي فلا يمكن القول بأن الماضي انتهى ولم يعد له أي تأثير على الحاضر. الماضي حاضر وحي وفعال أكثر من أي وقت مضى. وسيظل الأمر كذلك ما دمنا نرفض غربلة التراث كما فعلت الأمم المتقدمة في أوروبا فنحتفظ بالجوهر ونطرح القشور. وجوهر التراث الإسلامي عظيم وقيمه الأخلاقية والروحية العليا لا تقدر بثمن. ولكن ما دمنا نرفض أن نتبنى التفسير التاريخي العقلاني للدين فإن القشور ستظل تغطي على الجوهر ولن نخرج من الانحطاط حتى ولو بعد مليون سنة! لب المشكلة يكمن هنا. لا يمكن أن نتهرب من هذا الاستحقاق: استحقاق التنوير. العالم كله ينتظرنا على هذا المنعطف. الجميع يتساءلون: متى سيستنير العالم الإسلامي، متى سيراجع نفسه، متى سينتصر على نفسه: أي متى سيتجاوز فكر التكفير والقرون الوسطى المظلمات؟ هذا هو السؤال الوحيد الذي يطرحونه علينا عندما نلتقي بهم في المؤتمرات الدولية أو حتى بشكل شخصي عفوي عن طريق المصادفة.

فتاوى التكفير لن تحل المشكلة وإنما ستزيدها تعقيدا. إنها لن تصالحنا مع أنفسنا ولا مع العالم وإنما ستعيدنا إلى القرون الوسطى. إنها ستساهم في تقسيم سوريا بدلا من توحيدها. بل وستكرس الاعتقاد السائد في الغرب بأننا تكفيريون إرهابيون في أعماقنا لأننا نحتقر كل الأديان والمذاهب الأخرى حتى ولو تظاهرنا بالعكس بعد ضربة 11 سبتمبر أو سواها. نعم إنها ستسبب لنا مشكلة مع العالم كله وليس فقط مع أنفسنا. فهل نستطيع أن نعيش في عالم ونحن نكفر ثلاثة أرباعه؟ وكم سيجر علينا ذلك من مشاكل وإحراجات؟ وبالتالي فما كان ينبغي نبش هذه الفتوى اللاهوتية من أعماق التاريخ وكهوفه المظلمة. لقد أضرت بقضية الشعب السوري السائر نحو الحرية والانعتاق ولم تنفعها على الإطلاق.

لقد حاولت الاستباق على هذه الأحداث عندما انهمكت مطولا في دراسة ما حصل في أوروبا من مجازر طائفية وحروب طاحنة بين المذاهب المسيحية المتناحرة. كنت أريد أن أعرف كيف عاشوها وكيف خرجوا منها. كنت أحلم بالاستفادة من تجربة الأمم المتقدمة في هذا المجال. هذا هو مغزى كل بحوثي وترجماتي على مدار ثلاثين سنة متواصلة. كنت أعرف أننا سنصل إلى هنا، أننا سنقع في الحفرة، وأنه لا مفر من مواجهة رواسب التاريخ المتراكمة وتصفية الحسابات المعلقة. كنت أعرف أنها ستنفجر عاجلا أو آجلا كالقنابل الموقوتة المفخخة. وكان عزائي الوحيد أو بصيص أملي هو أن أمما أخرى شهدت نفس المصيبة وخرجت منها. وهي أرقى أمم الأرض حاليا وأكثرها تقدما واستنارة، علما وحضارة. والله إني لأحسدهم على وحدتهم الوطنية الراسخة رسوخ الجبال! وقد رأيت ذلك بأم عيني في فرنسا وألمانيا المقسومة إلى قسمين متساويين تقريبا: قسم بروتستانتي- وقسم كاثوليكي. ولكنهم هم أيضا كانوا ظلاميين يكفرون بعضهم بعضا قبل أن يستنيروا ويتطوروا. وكان عندهم رجال دين يهيجون الناس بالمواعظ لكي يذبحوا بعضهم بعضا على الهوية. كاهن كاثوليكي بابوي يكفر البروتستانتيين أو العكس! ولم يخرجوا من المجزرة إلا بعد انبثاق تأويل جديد للدين المسيحي على يد فلاسفة التنوير الكبار. وهو تأويل يتجاوز التأويل الطائفي التكفيري القديم الراسخ الجذور في أعماق الشعب.