ما خطب تركيا؟

TT

ألقى السلطان سليم المفضل لدى أردوغان هذه القصيدة الشهيرة بالفارسية: «يتسع البساط لرجلين متصوفين، لكن لا يتسع العالم لملكين». وقرر أردوغان أن يطلق على الجسر الثالث المقرر إقامته على خليج البوسفور في اسطنبول اسم السلطان سليم. مع ذلك يبدو أن تركيا لا تتسع لأردوغان والمتظاهرين معًا. المثير للاهتمام أن السلطان سليم الأول مثار جدل، حيث يقال إنه أمر بقتل 45 ألف شخص.

ولم تكن تركيا تتسع للسلطان سليم، لذا قتل أخيه وأمر بمذبحة ونقش اسمه على صفحة التاريخ كديكتاتور عظيم ومحتل للأراضي بما فيها مصر. ولو كان أردوغان حكيما، لكان اختار إطلاق اسم الرومي على ذلك الجسر؛ فالرومي يمثل جسرا بين الشرق والغرب وبين المسلمين بعضهم البعض. ونحن في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة إحياء أفكار الرومي لا شخص مثل السلطان سليم.

ما الذي يكمن وراء التظاهرات الحالية التي تشهدها تركيا؟ هناك عدة أسباب للأحداث الحالية في تركيا. وليست المشاكل الاقتصادية من بين تلك الأسباب، فالاقتصاد التركي ناشئ وتركيا عضو في مجموعة العشرين. ويوجد في تركيا طبقة وسطى قوية. لذا ميدان تقسيم لا يشبه ميدان التحرير بأي حال، ولا يوجد بوعزيزي في تركيا لا حقيقي ولا مصطنع. ولا ينبغي النظر إلى الأحداث الأخيرة على أنها ربيع تركي، فتركيا متفردة من هذه الجهة.

أعتقد أن هناك بعض التناقضات في بنية الهوية السياسية في تركيا. إذا تصورنا تركيا مجازا إنسان، فسنرى أحيانا بعض البقع على جلده، لكنها ليست تافهة، بل عرض لمرض متغلغل. وتمثل العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين موضع تناقض أساسي في تركيا. ويؤدي هذا التناقض إلى نتيجتين في شكل ونمط الحياة وفي أسلوب الحكم.

أعتقد أننا نستطيع رؤية أعراض هذا المرض في مظاهرات متنزه غيزي بإسطنبول والتي بدأت يوم 31 مايو (أيار) وما أعقبها من تظاهرات في مختلف أنحاء تركيا.

فلنلق نظرة على تاريخ تركيا المعاصر. في 28 فبراير (شباط) عام 1997، عقد مجلس الأمن القومي التركي، الذي يتكون من الرئيس، سليمان ديميريل، ورئيس الوزراء، نجم الدين أربكان، وثلاثة وزراء وستة جنرالات، اجتماعهم الشهري الذي أسفر عن انقلاب على رئيس الوزراء أربكان. وتم اتخاذ بعض القرارات ومنها منع دورات تعليم القرآن وإغلاق مدارس الإمام الخطيب التي كانت تقدم خدمة التعليم للطلبة الذين لم يكملوا الصف الثامن. ويوضح البيان الصحافي للمجلس سبب الاجتماع من خلال التأكيد على أن «العلمانية في تركيا ليست فقط ضمان للنظام السياسي بل أيضا طريقة حياة». (العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين، أحمد كورو، الصفحة 161). لم تدم القرارات، التي تم اتخاذها في ذلك الاجتماع، سوى سبع سنوات، ففي عام 2011، أسس أردوغان وأتباعه حزب العدالة والتنمية. وكان هذا يمثل بداية فصل جديد في تاريخ تركيا. لقد كان أردوغان عمدة إسطنبول في ذلك الوقت، وتم الحكم عليه بالحبس لمدة عشرة أشهر لإلقاء قصيدة قبل أن يصبح في النهاية الرجل الذي غير الوجه السياسي والاجتماعي لتركيا خلال العقد الماضي.

أعلن الجنرال حسين كيوريك أوغلو، رئيس الأركان التركي، أن عملية 28 فبراير (شباط) سوف تستمر ألف عام. وتبين فيما بعد عدم صحة ذلك، فإمكانية القيام بانقلاب عسكري في تركيا انتهت من الوجود إلى الأبد. ونسمع هذه الأيام في رسائل أردوغان توجها واضحا نحو الإسلام. وصرح أردوغان قائلا: «أي كان الدين الذي نتحدث عنه، إذا أمر بشيء هل يمكن لكم الاعتراض عليه؟ إذا احترمنا تشريع يسنه مخموران، لماذا نشعر أنه يجب معارضة قانون يفرضه علينا الدين؟».

على الجانب الآخر، اكتشف العلمانيون الانتقاد الخطير الذي يوجه لسياسات أتاتورك. من الواضح من هو الشخص الذي يشير إليه أردوغان، حيث يعتقد كثيرون أن واحد من المخمورين هو مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية العلمانية. مع ذلك يظل الكثير من الأتراك متمسكين بذكرى أتاتورك ويتأثرون عند ذكر اسمه سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. لذا كان حتميا أن يندلع شيئا ما بسبب ملاحظات وتلميحات أردوغان خاصة عندما تكون متضمنة إشارات إلى نمط الحياة العلماني.

وتوضح أحداث متنزه غيزي جذور التناقض الذي تعيشه تركيا حاليا. قُتل ثلاثة أشخاص وأصيب الآلاف ولا تزال المظاهرات مستمرة. الخطة الخاصة بمتنزه غيزي هي هدم مركز كمال أتاتورك وإقامة محله مسجدا ضخما. كذلك سيتم تسمية الجسر العملاق الثالث على البوسفور باسم السلطان سليم الأول. وتحمل هذه الخطوات رسالتين قويتين إلى العلمانيين والعلويين. والمثير للاهتمام أن بعض المعلومات، التي نشرت على الـ»فيس بوك»، تشير إلى أن صهر أردوغان، بيرات البيرق، يضطلع بدور مهم في مشروع متنزه غيزي. وبيرات رجل أعمال تركي والرئيس التنفيذي لشركة «غاليك هولدينغ غاليك» وهي واحدة من كبرى المؤسسات التركية. وليس مشروع متنزه غيزي هو المشروع الوحيد المثير للجدل الذي تنفذه الحكومة. وسيتأثر الشباب التركي الآن بخطة حكومية أخرى، تتضمن منع بيع المشروبات الكحولية والتقبيل في الطرقات العامة. ولم ينتبه أردوغان بشكل كافي إلى جذور التظاهرات، فهو لا يرى أن «متطرفين محليين» فحسب، بل أيضا «قوى أجنبية» هي التي وراء التظاهرات التي أثارتها حركة إنقاذ متنزه غيزي في إسطنبول.

في الثالث من يونيو (حزيران)، في مطار أنقرة وقبل الذهاب إلى المغرب، قال أردوغان إن «أجهزة الاستخبارات» ستحقق في الأيدي الأجنبية الضالعة في الأحداث الأخيرة. وأعتقد أن الرئيس عبد الله غل كان محقا عندما أشار إلى ضرورة النظر إلى التظاهرات في تركيا باعتبارها أقرب إلى حركة «احتلوا وول ستريت» منها إلى «الربيع العربي». على عكس الدول العربية أو روسيا، لا تزال تركيا دولة ديمقراطية تجرى بها انتخابات حرة لا يستطيع أحد تزويرها. وهو النظام نفسه الذي أتى بأردوغان إلى السلطة. وفي ذروة الاحتجاجات السورية «السلمية»، كان رئيس الوزراء التركي يناشد «شقيقه» الرئيس السوري بشار الأسد بالاستجابة إلى طلبات «الحشود المسالمة». أما الآن يناشد القادة الأوروبيون رئيس الوزراء التركي بالتخلي عن عجرفته والإصغاء إلى طلبات المحتجين والتخلي عن خطط بناء مركز تجاري في متنزه غيزي. ويطالب المحتجون بكل شيء بما في ذلك القمر والنجوم. ولا يريد المحتجون مشروعات البناء العظيمة التي يعتقد رئيس الوزراء أنها ستصبح أثارا تدل على عهده.

وصف أردوغان بعض المتظاهرين بـ»المتطرفين» وقال إنه تم إلقاء القبض على سبعة أجانب على خلفية الاضطرابات. وأدلى أردوغان بهذه التصريحات في تونس، ومن المقرر أن يعود إلى تركيا من جولة شمال أفريقيا يوم الخميس الموافق السادس من يونيو (حزيران). ودعت مجموعة كبيرة من المحتجين إلى المشاركة في المزيد من التظاهرات ردا على تلك التعليقات. وكان المتظاهرون يأملون في رؤية مؤشر يدل على قرب التوصل إلى حل وسط، لكن من المرجح أن تصب تعليقات أردوغان الزيت على النار وتزيد حدة الاحتجاجات. وكان الأثر الاقتصادي سريعا، حيث هبطت البورصة بنسبة 5 في المائة تقريبا بعد تصريح رئيس الوزراء.

الجدير بالذكر أن حزب العدالة والتنمية يحكم تركيا منذ عام 2002 وحقق العديد من الانتصارات الانتخابية. وحكومته متهمة بالتسلط الآخذ في التزايد وبمحاولة فرض القيم الإسلامية المحافظة على دولة علمانية. ويمكن القول بإيجاز إن هناك خوف من ظهور سلطان سليم جديد. وأعتقد أن ما يحدث يعد إنذارًا لأردوغان، حيث ينبغي عليه أن يكون مرنًا كالشبكة لا صلدًا كالحجر.