دلالات «تقسيم»؟

TT

يبدو أن منطقة الشرق الأوسط حبلى بالمفاجآت غير المتوقعة، أو أن بها الكثير من الغليان تحت السطح الذي ينفجر من دون مقدمات كانفجارات البراكين أو الزلازل من دون أن يتوقعها أحد. حدث هذا في موجة الانفجارات الاجتماعية والسياسية التي ضربت عدة جمهوريات عربية منذ بداية عام 2011 ووضعت المحللين والسياسيين وأجهزة دول في حيرة إزاء كيفية التعامل معها لدرجة أن المواقف كانت تتبدل بين يوم وآخر حسب تطورات الشارع.

نفس الشيء حدث في احتجاجات ميدان تقسيم في إسطنبول التي بدأت باعتصامات صغيرة ضد اقتلاع أشجار حديقة ميدان تقسيم لإفساح المجال أمام مشروع تجاري وعقاري، وهو أمر عادي يحدث في كل مدينة كبيرة عالمية، وفجأة تطورت الاحتجاجات لتصبح بعشرات الآلاف وتتحول إلى أكبر أزمة سياسية تواجهها حكومة أردوغان منذ صعود حزبه إلى السلطة قبل عشرة أعوام.

لم يتنبأ أحد بذلك أو يتوقعه، كما كان توقيت الأزمة صادما ومدهشا في نفس الوقت، فهي تأتي في ظل صعود كبير للدور التركي في قلب منطقة الشرق الأوسط، وعلى الساحة العالمية بعد النجاح الاقتصادي الذي حققته، فهي لو كانت عضوا في الاتحاد الأوروبي حاليا لكانت أنشط اقتصاد بمعدلات نموه المرتفعة، وهي أيضا في عيون الدول الغربية نموذج ديمقراطي في دولة إسلامية يقودها حزب له خلفية إسلامية، ويمكن أن تكون نموذجا لحركات الإسلام السياسي الصاعدة إلى الحكم في عدة جمهوريات عربية.

لكنها ليست الحالة الأولى التي يكون هناك انطباع خارجي إيجابي عن دولة أو حكومة معينة اعتمادا على سياستها الخارجية أو ما يراه الخارج منها بينما يكون الداخل له رأي آخر، أو لديه اعتراضاته على الأساليب التي يحكم بها. أو بعبارة أخرى فإن الجمهور الداخلي في أحيان كثيرة يكون لديه أولوياته واهتماماته ومخاوفه تجاه حكومته المختلفة عن أولويات الخارج الذي ينظر لها بعيون مصالح إقليمية ودولية ومدى تواؤم السياسات الخارجية مع سياساته.

تحولت احتجاجات تركيا التي كانت في البداية ضد اقتلاع شجر أو القضاء على حديقة وساحة عامة تعد متنفسا للترفيه عن السكان، إلى صراع سياسي بين قوى متصادمة في المجتمع التركي حول هوية الدولة.. المحتجون لديهم مخاوف من سياسات وإجراءات يرون أنها تقود البلاد إلى العودة إلى الهوية العثمانية القديمة المخالفة لما رسمه باني تركيا الحديثة كمال أتاتورك، وأنصار الحكومة يرون كما تظهر التصريحات الصادرة أنها محاولة استغلال من جانب المعارضة وأحزاب يسارية متطرفة ضد مشروع تجاري وتنموي عادي ستستفيد منه المدينة.

قد تكون الاتهامات بالاستغلال لها وجاهتها، لكن التقارير التي ينقلها صحافيون وشهود عيان تشير إلى أن جانبا كبيرا من المحتجين ليسوا سياسيين ولم ينضموا لحزب في أي يوم من الأيام، فهم شباب وشيوخ وفئات اجتماعية مختلفة وجدت في الاعتصام فرصة للتعبير عن مخاوفها، واحتجاجها على بعض السياسات.

والسياسيون الذين يمثلون حزب العدالة والتنمية على حق في رفض المقارنات التي تجريها بعض التحليلات السياسية لما حدث في ميدان تونس وميدان التحرير في مصر وبين ما يحدث في ميدان تقسيم حاليا وحجتهم وجيهة، فهناك انتخابات وأحزاب حقيقية في تركيا وعملية تدوير للسلطة، لكن أيضا هناك جانب لا يمكن إغفاله وهو أن احتلال ميدان تقسيم والاعتصام فيه يحمل درجة كبيرة من أوجه الشبه بينه وبين ما حدث أو لا يزال يحدث في ميادين أخرى في مصر أو تونس بما في ذلك دخول مشجعي أندية كرة القدم السياسة وحلبة الاحتجاجات.

لا يجادل أحد في أن حزب العدالة والتنمية التركي جاء بقوة من خلال صناديق الانتخابات بجدارة، وبأغلبية كبيرة، لكن ما حدث يثبت أن الأغلبية القادمة من صناديق الاقتراع لا تستطيع أن تفرض إرادتها على كل المجتمع من دون أن تأخذ في الاعتبار وجهات نظر الأطراف المجتمعية الأخرى، وهو درس ظهر جليا في مصر وتونس بالتحديد، فالحل ليس في شارع مقابل شارع أو ميدان مقابل ميدان والكل يستعرض حشوده، فهذه صيغة خراب وليس بناء وتقدم إلى الأمام.

أخيرا قد يكون أبرز دلالات ما حدث في تركيا هو أن تحولات المنطقة وتقلباتها لم تنته بعد، وأن عملية التشكل والتبدل نتيجة الصدامات والصراع بين تيارين واضحين في المنطقة هما تيار الإسلام السياسي والقوى الرافضة له، ستأخذ سنوات حتى تظهر صورة نهائية من المرجح أنها ستكون وسطية بين هذا وذاك.