خلطة.. صعبة.. ولكن مطلوبة

TT

في القمة المهمة جدا التي انعقدت في الولايات المتحدة منذ أيام بين زعيمي الصين وأميركا، تم التطرق إلى الكثير من الأمور والمواضيع والملفات المهمة والمؤثرة على العلاقات بين البلدين وعلى اقتصاد العالم، ولكن بقي الموضوع الأكثر أهمية، الذي لقي الاهتمام الإعلامي الاستثنائي والمتابعة غير العادية، وكان عن دور الحكومات والتقنية وضرورة منح الشعوب حق حرية التصفح غير المقيدة على شبكة الإنترنت العنكبوتية دون تدخل من الحكومات بأي شكل من الأشكال، وذلك في إشارة واضحة جدا إلى سياسات الصين المتحفظة التي تفرض شروطا أمنية قاسية على مواقع مختلفة، وهي مسألة عانت منها شركات كبرى وعملاقة مثل «ياهو» و«غوغل» و«إي باي» على سبيل المثال.

واللافت أن مطلب أميركا من الصين كان يحدث وسط أزمة كبيرة تواجه إدارة أوباما تتعلق برقابة الأجهزة الأمنية ووزارة العدل على حسابات البريد الإلكتروني ومكالمات التليفون وسجل تصفح الإنترنت لمئات الآلاف من المواطنين في أميركا، وطبعا حصل رد فعل عنيف ومتوقع من الإعلام والمنظمات الحقوقية، اعتبروا هذه الإجراءات تدخلا سافرا في خصوصيات المواطنين واعتداء على حرمتها واختراقا هائلا لحقوق حماها وكفلها الدستور الأميركي نفسه.

من الواضح جدا أن هناك خطوط تماس عظيمة تتحرك لإعادة هيكلة حدود السيادة وحقوق المواطن وقيم الخصوصية له وحريات الرأي والتصفح والاطلاع والمشاركة وحق الدولة «الأمني» المتعلق بحماية المجتمعات، وإلا زاد من «الأخطار» الموجودة. ومع ازدياد قدرات التكنولوجيا وزيادة إمكانياتها في تخطي كل «الجدران النارية» التي تؤسس لحجب المواقع المحظورة، يكون دور الحكومات ومهمتها في القيام بذلك أشد صعوبة وفيه هدر للمال والوقت، وخصوصا أن تقنية اختراق المواقع باتت تمكن حتى الأطفال من القيام بذلك نظرا لسهولتها وتوفرها على صعيد عريض وغير بسيط.

اليوم حق التصفح على الإنترنت أصبح مثل حق التعليم وحق العمل وحق العدل وحق المساواة، فالدول لم تعد تستطيع بسهولة الإقدام على «منع» كامل لهذه الخدمة لما سيطالها من نقد وتجريح، ولا يمكن استبعاد أن يتم «تصنيف» عالمي للدول الأكثر شفافية في هذا الشأن الحيوي يتبعها لاحقا مجموعة من العقوبات الاقتصادية، لكن الولايات المتحدة بأزمتها التي تواجهها الآن والتي باتت معروفة باسم «بريزم» تظهر أن «الأمن» بات غاية ووسيلة تبرر كل شيء في سبيل إنجازه حتى ولو تم «لي» بعض الأذرع وتحمل بعض الصدمات في سبيل ذلك، ولكن المجتمعات الحية لا تقبل ذلك الطرح بسهولة لأن الاعتراض له وسائله وطرقه وأساليبه المتحضرة.

دور الدولة «السيادي» سيعاد تعريفه، مفهوم الأمن سيعاد تقديمه، حقوق المواطن ستعاد كتابتها، والخصوصية كمفهوم سيعاد تفسيرها، وهنا سوف يكون للقانونيين الدور الأعظم والأهم والأخطر لأنهم بحاجة إلى سن سلسلة غير مسبوقة من القوانين التي تعيد تعريف كل خطوط التماس المتداخلة والتي وضعت الإعلام والمواطنين والحكومات في قلق وحيرة وغضب وحوارات ونقاشات مليئة بالاتهامات والمغالطة، لوجود خلفيات ثابتة ومؤكدة في الأذهان عن هذه الصور والأدوار بشكل نمطي.

عالم جديد ويتغير، تحكمه التقنية والرأسمالية والحريات، وتحاول الدول والشعوب التكيف والتعايش مع متغيرات هائلة التأثير بالغة التعقيد، ولكنها ولا ريب مسائل لا يمكن الاستهتار بها ولا الاستهانة بها، إنها ملامح عصر جديد مهما جيرت محاولات التفسير لصالح نظريات المؤامرة والتدخلات الخارجية والأصابع والأجندات.

إنه واقع جديد وبات من المطلوب التعامل معه بثقة ووعي وأمن ومسؤولية واحترام، وهي خلطة متى تحققت كانت من عناصر العدل والقوة للمجتمع، وهو مطلب شرعي وجدير بكل الشعوب.