سوريا: صناعة البديل السياسي

TT

ربما كانت الفرصة الأخيرة للشعب السوري المغلوب على أمره، الذي لا يزال يدفع الثمن باهظا إزاء تبلّد المجتمع الدولي، أن تسعى المعارضة السياسية في الخارج، مدعومة بالإنجازات على الأرض، إلى إغراء المناخ السياسي الدولي بأنها «البديل» المؤهل لقيادة البلاد، بعد أن اكتسب «النظام الأسدي»، ويا للأسف، شرعية الخيار الأسوأ في دوائر كثيرة الآن تتحدث عن قلقها من رحيله، في سابقة سياسية ستكون لها آثارها في المنطقة؛ فالاحتفاظ بشرعية نظام نكّل بشعبه وقتل منهم ما يقترب من حدود المائة ألف، فصل جديد في طبيعة علاقة الدولة القطرية بالقوى الدولية، عدا أنه، وعلى مرأى ومسمع الجميع، اجترّ «لبنان» عبر حليفه ميليشيا حزب الله إلى تفكيك منطق بنية الدولة اللبنانية، عبر دخول مكوّن سياسي عسكري كحزب الله للقتال في سوريا، ولاحقا تأديب اللبنانيين المعترضين على ذلك أمام السفارة الإيرانية، وقتل أحد المتظاهرين على طريقة العقاب المباشر، الذي يبعث أكثر من رسالة للداخل والخارج.

والسؤال هنا، عن المعارضة السورية ودورها في تخفيف صلف المجتمع الدولي ليس بغرض تحميلها جزءا من المسؤولية، بقدر ما أنه بحث عن حلول سياسية خارج دائرة القتال على الأرض، الذي يبدو أنه في طريقه ليكمل عامه الثالث.

والحال أن المعارضة السورية تفتقر إلى وجود قيادة سياسية مقنعة؛ فحتى مع مجيء الائتلاف الوطني ممثلا للمجالس المدنية والقوى المسلحة في الداخل، فإنه لا يؤثر عليها في صناعة القرار أو حتى توجيه دفّة المعركة لتتبع التوجه السياسي، وبالتالي، لم يقدم الائتلاف أكثر مما قدمه المجلس الوطني السوري سابقا.

أزمة المعارضة السياسية في التجارب العربية هي أزمة رؤية موحدة، فالتنافس الشديد على ملء الفراغ السياسي والاستقطاب ومحاولة البحث عن فرصة لابتلاع الحالة السياسية بين الفصائل المكونة للمعارضة جعلها تبدو هشة وضعيفة ومن دون رؤية جمعية، فضلا عن تأثيرها الضعيف على المقاتلين في تسوية النزاعات وحتى في فرض شكل القيادة البديلة في المناطق المحررة على مستوى اتّخاذ القرارات السياسية الاستراتيجية؛ فالمجتمع الدولي الذي لم يقدم حتى الآن أي شيء يُذكر لدعم القضية السورية يترقب سلوك المجموعات المقاتلة على الأرض، خوفا من تكرار تجارب وأخطاء المجموعات المقاتلة، وهي فرض رؤيتها المتطرفة الخاصة على المناطق المحررة.

غياب أي مبادرة لاستنساخ نموذج مدني لكتلة سياسية بديلة من شأنه تعزيز تعاظم الميليشيات المسلحة ودورها الذي سينتقل من القتال على الأرض إلى المشاركة السياسية من دون تأهيل، وهو ما سيفرز ارتباك النموذج الليبي إذا افترضنا (في أحسن الأحوال) رحيل المقاتلين الأجانب، إلا أن خيارات النموذج الليبي غائبة عن الواقع السوري، لأن التركيبة الاجتماعية مختلفة تماما في الحالة السورية، لأنها مبنية على أسس جهوية وعقائدية لا ينفع معها أسلوب المحاصصة، بقدر أنها بحاجة إلى قيادة سياسية تمثل كل السوريين بسبب تأهيلها وقدرتها على لعب دور الوسيط بين كل القوى السياسية.

الشعب السوري الآن يدفع ثمن 40 عاما من الصوت السياسي الواحد تحت حكم حزب البعث، وهذا ما لا ينبغي أن يغيب عن نقاد المعارضة السورية من المراقبين والمحللين السياسيين، فلا يُعقل أن تجد نخبة سياسية بعد عقود من الحكم الاستبدادي لديها الخبرة في قيادة البلاد، كما أن دفة الأحداث المتتالية واستمرار النظام في وحشيته وجلبه لمقاتلي حزب الله ساهم في إضعاف الحالة السياسية على حساب التصعيد والتوتر الطائفي والنظر إلى المجموعات المقاتلة من «القاعدة» وغيرها كقارب إنقاذ من حمام الدم كالذي جرى في القصير، كما ساهمت مظاهر الاحتفال في طهران والضاحية في نقل الوعي بالثورة السورية إلى مرحلة خطيرة جدا لن تستطيع الدول العربية معها كبح جماح مجموعات إسلامية كبيرة قد تتخذ قرار نقل المشاركة في الأزمة السورية من المساعدات والمعونة المادية إلى القتال، وهو ما سيشكل عبئا على الأزمة السورية من جهة، وإشكالية جديدة للدول المتعاطفة مع ثورة الشعب السوري في حال انفلات الأوضاع، وربما كانت ردود الفعل داخل المجموعات الإسلامية على تصريحات الدكتور القرضاوي تعطي انطباعا مخيفا ومرعبا على حالة الاستقطاب الطائفي، التي لا يمكن التحكم فيها مع ازدياد التدخل الإيراني المباشر في الأزمة السورية.

المعارضة السورية الآن لا تواجه دولة، بل نظاما سياسيا بلا بنية تحتية وبدولة مدمرة يستعين بميليشيات خارجية للبقاء، وهذا يفرض عليها أن تقدم نفسها بديلا مؤهلا عبر التوافق السياسي، وإيجاد صيغة تجمع كل القوى على الأرض.

[email protected]