بحجة «الإسلام الراديكالي» بوتين يشارك في هذه الحرب الطائفية

TT

لم تعد هناك حاجة للمزيد من الإثباتات على أن هذه الحرب، التي كان بشار الأسد قد بدأها بجريمة درعا في عام 2011، حرب مذهبية وطائفية، أرادتها إيران غطاء لمشروعها الفارسي التمددي في المنطقة العربية، وبمشاركة روسية فاعلة ورئيسة، دافعها الأساسي الخوف الشديد مما تعتبره الإسلام الراديكالي، الذي كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد حذر منه مرارا بإطلاق تصريحاته الشهيرة التي أنذر فيها أوروبا الغربية والشرقية من غزو إسلامي جديد على غرار ما قامت به دولة الخلافة الإسلامية التركية.

لقد سمعت من رجل الدين المسيحي الفلسطيني الأب عياد رحمه الله، وهذا كان في السنوات الأولى من عقد تسعينات القرن الماضي، أن أحد كبار «الخوارنة» المسيحيين النمساويين قد زاره في إحدى كنائس فيينا التي اعتاد الإقامة في جناح الضيافة الملحق بها كلما زار العاصمة النمساوية، وأنه سأله: متى تعتقد وتتوقع أن يأتي المسلمون كـ«فاتحين» لهذه البلاد التي كانوا قد وصلوا إلى قلب عاصمتها هذه خلال فتوحاتهم السابقة في القارة الأوروبية؟!

وبالطبع، فإن جواب الأب عياد، المعروف بالتزامه الوطني الفلسطيني والتزامه القومي العربي الذي بقي متواصلا على مدى مسيرته النضالية الطويلة، كان حاضرا وتلقائيا: وهل تعتقد أن المسلمين المحاصرين في كل أقطارهم وخاصة الأقطار العربية، المحاصرين بالمؤامرات والأخطار المتعددة وأولها «الخطر الصهيوني»، يملكون مجرد ترف التفكير في غزو أوروبا مجددا وكما فعل العثمانيون في ذلك الزمان الذي بات بعيدا ومن غير الممكن العودة إليه. ولقد قال الأب عياد في جوابه هذا أيضا: إن هناك مبالغة مقصودة في التخويف والتحذير من فتوحات إسلامية كتلك الفتوحات العثمانية آنفة الذكر في القارة الأوروبية، فهذا له أهداف، من المفترض أنها لا تخفى، لا على المثقفين والمتنورين الأوروبيين ولا على رجال الدين في أوروبا، من بينها التمهيد لاستهداف الدين الإسلامي، والربط بينه وبين الإرهاب الذي لا دين له والذي بات يضرب في دول كثيرة، في مقدمتها الدول العربية والإسلامية.

إن هذا الذي سمعه الأب عياد من أحد كبار رجال الدين المسيحيين يدل على كم أن هناك بيئة غربية أميركية وأوروبية جاهزة لالتقاط تلك التصريحات، التي كان أطلقها فلاديمير بوتين في نهايات العقد الماضي من القرن الحادي والعشرين والتي حذر فيها الأوروبيين من فتوحات إسلامية جديدة على غرار تلك الفتوحات التي أوصلت العثمانيين إلى فيينا، التي تعتبر قلب القارة الأوروبية. والحقيقة أن الرئيس الروسي قد أكد أكثر من مرة، إنْ في ولايته الأولى وإنْ في ولايته الثانية وحتى في ولايته الثالثة هذه، أن لديه نزعة «صليبية» كريهة، وأنه يكره الإسلام والمسلمين، وأن لديه «فوبيا» حقيقية بحجة الخوف من الظاهرة الجهادية تجاه هذا الدين الحنيف، الذي هو الدين الأول في الجمهوريات والكيانات التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي السابق.

والمشكلة هنا، أن تطلعات فلاديمير بوتين لدق إسفين فرقة بين سنة وشيعة هذا الدين، هي التي جعلته ينحاز إلى إيران الفارسية ذات المشاريع التمددية في الشرق الأوسط، وهي التي جعلته يتبنى حرب بشار الأسد المذهبية والطائفية ضد أبناء الشعب السوري، وهي التي جعلته يسخر كل إمكانات روسيا السياسية والعسكرية لهذه الحرب القذرة، وجعلته يظهر كل هذا التشدد الذي يصل حدود الحقد الأعمى ضد المعارضة السورية، التي هي، بصورة عامة، وللأسف قول هذا، معارضة سنية مع كل الاحترام والتقدير للمشاركين فيها من الفئات الدينية والطوائف الأخرى، حتى بما في ذلك الطائفة العلوية المختطفة من قبل هذا النظام كاختطاف حسن نصر الله وحزبه للطائفة الشيعية اللبنانية الكريمة.

وهنا وحتى لا يسود اعتقاد أنه لا يوجد خلف هذا الموقف الذي يتخذه فلاديمير بوتين تجاه الصراع المحتدم في سوريا إلا هذا الموقف المؤجج لنيران الفتنة بين المسلمين من سنة وشيعة - فإنه لا بد من الإشارة إلى أن هناك أسبابا متعددة أخرى لهذا الاصطفاف الروسي إلى جانب بشار الأسد في هذه الحرب الطائفية التي يشنها على الشعب السوري، من بينها تسديد حسابات قديمة وجديدة مع الولايات المتحدة، ومن بينها أيضا استغلال ضعف هذه الإدارة الأميركية والسعي لفرض روسيا كرقم رئيس في المعادلة الدولية.

إن هذا هو واقع الحال، وأن ما لم يعد هناك أي مجال لإنكاره هو أن فلاديمير بوتين، وبدافع زرع بذور الفتنة بين المسلمين وإذكاء نيران صراع تاريخي دموي بين السنة والشيعة، على غرار ما كان سائدا في العهد الصفوي المقيت، قد تبنى حرب «القصير» التي شاركت فيها بلاده بالأسلحة، حتى المحرمة منها دوليا، وبالخبرات العسكرية وبالإعلام والسياسة، وكل هذا إلى جانب إيران وحزب الله و«الفيالق» الطائفية التي أرسلها نوري المالكي، والمتطوعين «الحوثيين» من اليمن ومن البحرين ومن دول عربية أخرى.

وهنا، فإن أكبر كذبة أطلقها نظام بشار الأسد، وتبنتها إيران وروسيا وتبناها حسن نصر الله وكل «الكتائب» الإعلامية المذهبية، هي أن بلدة «القصير» تشكل من الناحية الجغرافية عقدة استراتيجية رئيسة، وبالتالي فإن الانتصار الذي تحقق فيها قد حسم المعركة في سوريا نهائيا. والحقيقة أن هذه البلدة الصغيرة، لا هي استراتيجية ولا همْ يحزنون، وأن الحرب الأخيرة التي شهدتها كانت حربا طائفية بكل معنى الكلمة، وأن هذه الحرب قد أشعلت نيران الفتنة البغيضة بين السنة والشيعة وفتحت أبواب صراع طائفي كذلك الصراع الإسماعيلي - العثماني الذي شتت شمل المسلمين وأحرق أكبادهم واستنزف جهود أمتهم ولعقود طويلة.

وهنا أيضا، فإن ما يدل على حجم الدور الذي لعبته روسيا في هذه المعركة التي جرى النفخ في نتائجها أكثر من اللزوم لإشعار نظام بشار الأسد بأنه حقق انتصارا كان بحاجة إليه وهو لا يزال بحاجة إليه - هو أن لافروف، وزير خارجية فلاديمير بوتين، قد وضع نفسه وبلده في مواجهة الرأي العام العالمي كله وفي مواجهة لبنان وقواه الوطنية ورئيسه ميشال سليمان، وأيضا في مواجهة قطاع واسع من الشيعة اللبنانيين، بدفاعه عن تدخل حزب الله العسكري في سوريا وبدوافعه الطائفية والمذهبية التي باتت مكشوفة والتي لا علاقة لها بكذبة «الممانعة والمقاومة» الممجوجة، وغير المقنعة حتى للذين يطلقونها ويتمسكون بها.

عندما يبدي فلاديمير بوتين، سابقا ولاحقا، كل هذا العداء للإسلام والمسلمين خوفا مما يعتبره تشددا إسلاميا في الشيشان والداغستان وفي باقي المناطق الإسلامية في بلاده، وعندما يلجأ إلى تحذير الأوروبيين من فتوحات جديدة على غرار الفتوحات العثمانية القديمة، وعندما يبادر للاصطفاف، ومنذ بداية الأزمة السورية، إلى جانب نظام بشار الأسد وإلى جانب هذا المعسكر الطائفي الذي يقوده الولي الفقيه من طهران، ثم وعندما يغلق كل أبواب الحلول المعقولة المتوازنة لهذه الأزمة ويستمر في دفع الأمور نحو الصدام السني - الشيعي على غرار ما جرى في «القصير» وكما يجري الآن.. ألا يعني هذا أن روسيا متورطة في مؤامرة غدت مكشوفة على الإسلام والمسلمين، ولأسباب ومخاوف كثيرة ومتعددة، من بينها السبب آنف الذكر.

إنها مؤامرة، جرى الإعداد لها منذ أنْ بادر فلاديمير بوتين خلال ولايته الأولى والثانية إلى إطلاق تلك التصريحات التي حذر فيها أوروبا من فتوحات إسلامية جديدة، وها هي هذه المؤامرة يجري استكمالها بتبني موسكو حرب بشار الأسد، الطائفية والمذهبية، على الشعب السوري، ولتحشيد الإيرانيين عسكريا وماليا وسياسيا، ومعهم حزب الله، وشراذم الطائفيين الذين تم استقدامهم من العراق والبحرين واليمن، ومن كل حدب وصوب، للمشاركة في هذه الحرب التي كان عنوانها: «الدم يغلب السيف» وعلى غرار ما جرى خلال معركة بلدة «القصير» التي أعطيت أبعادا عسكرية، لا هي صحيحة ولا هي حقيقية.