إخفاقات «يسارية» في حلبة «تقسيم» التركية

TT

بدأت الاحتجاجات على نقل عدد من الأشجار من «حديقة النزهة» المطلة على «ميدان تقسيم» وسط مدينة إسطنبول التركية، لغرسها في مكانٍ آخر بالمدينة، تأخذ بعدا مختلفا عن الغاية التي خرجت من أجلها، في أعقاب محاولة الشرطة التركية استخدام القوة لفض تلك الاحتجاجات، لتتحول فيما بعد إلى احتجاجات على مشروع خاص كانت الحكومة قد أقرته مسبقا، ويهدف إلى إعادة تأهيل الميدان الذي يعتبر من أشهر ميادين المدينة وأعرقها. حاولت بعض القوى الداخلية والخارجية التي كانت تنتظر مثل تلك الفرصة بغية إشعال الفوضى في تركيا الاستفادة من تلك الاحتجاجات، وسعت بكل ما أوتيت من قوة لكي تكتسب نفساً آيديولوجياً، وذلك عن طريق بث الأخبار الكاذبة والمهولة لحجم الحدث، الذي يعتبر حدثا طبيعيا لبلد بخصوصية تركيا. وآمل في هذا المقال أن أجيب عن بعض التساؤلات الخاصة بمشروع إعادة تأهيل «ميدان تقسيم»، وكيف تطورت تلك الأحداث والأطراف التي ساهمت في تطورها.

إن الاحتجاجات التي بدأت كرد فعل على مشروع إعادة تأهيل «ميدان تقسيم»، تحولت لاحقا يومي الأول والثاني من يونيو (حزيران) إلى مظاهرات خرجت في عدد من المدن التركية ضد حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم.

أقر مشروع إعادة تأهيل «ميدان تقسيم» من قبل مجلس بلدية إسطنبول قبل عدة أشهر، ووافقت عليه جميع الأحزاب بما فيهم حزب الشعب الجمهوري. وأعلن حزب العدالة والتنمية عن المشروع الذي يهدف إلى توسيع الأماكن المخصصة للمشاة وإعادة بناء ثكنة عسكرية تاريخية هدمت في 1940 التي تعرف بـ«طوبجي قيشله سي» خلال انتخابات 2011. لم يقلل المشروع الجديد ألبتة من المساحة الخضراء الموجودة أساسا في الميدان، بل على عكس ذلك فقد ساهم بزيادتها، بعد أن حول طرق سير المركبات إلى أسفل الميدان، مما سيجعل الساحة بأكملها مخصصة للمشاة فقط.

ادعت بعض التقارير أن الخطة تهدف إلى بناء مجمع تجاري مكان حديقة «النزهة»، لكن ذلك عارٍ تماما عن الحقيقة. ورغم تأكيد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ذلك فإن المتظاهرين رفضوا الإصغاء وتابعوا احتجاجاتهم.

دعا رئيس بلدية إسطنبول: قادر طوب باش ممثلي «منبر متنزه تقسيم» و«غرفة المهندسين المعماريين بإسطنبول» إلى عقد اجتماع بتاريخ 1 يونيو لمناقشة المشروع، لكنهم اعتذروا عن عدم اللقاء نتيجة ضغوط مارسها المتظاهرون.

بدأت «احتجاجات تقسيم» استنادا إلى أسباب وأهداف موضوعية محدّدة المعالم، تتمثل بحماية البيئة، ورفض مشروع إعادة تأهيل ميدان تقسيم، لكنْ ومع استغلال بعض الأحزاب والمنظمات اليسارية المتطرفة لتلك الاحتجاجات، وإكسابها بعداً آيديولوجياً ضد الحكومة المحافظة، بدأ قادة الرأي والبرلمانيون المستقلون وزعماء الأحزاب التركية المعارضة بسحب أيديهم من تلك الاحتجاجات التي خرجت عن سياقها المشروع، وتمثل ذلك باتهام صلاح الدين دميرطاش، رئيس حزب السلام والديمقراطية المعارض، في 2 يونيو لبعض الأوساط اليسارية والقومية بالبحث عن ثغرة لعرقلة عملية السلام الداخلي التي بدأت من أجل حل القضية الكردية في تركيا، تلاه تنديد دولت باهجه لي رئيس حزب الحركة القومية التركية المعارضة، في كلمة ألقاها أمام كتلته البرلمانية في مجلس الشعب التركي بتاريخ 4 يونيو، بالمتظاهرين الذين تسببوا بأعمال حرق وتخريب وفوضى، معتبرا أن أنصار حزبه لن يكونوا داخل تلك الاحتجاجات التي خرجت عن مسارها، فيما انتقد أحمد تورك، البرلماني التركي المستقل عن ولاية ماردين، جنوب شرقي تركيا بتاريخ 5 يونيو، المواقف السياسية لحزب الشعب الجمهوري المعارض ذات التوجهات اليسارية، معتبرا أن سياسات هذا الحزب تقوم على مبدأ تلقف الفرص والاختباء خلف المظاهرات المشروعة. واستنادا إلى ما سبق، يمكننا القول: إن غالبية الأحزاب السياسية التركية أجمعت على التمييز بين المواطنين الذين خرجوا إلى «ميدان تقسيم» للاحتجاج على خطة تنفيذ مشروع إعادة تأهيل ميدان تقسيم، والمجموعات التي استغلت ذلك الحدث الطبيعي في الشارع التركي، من أجل تحويله إلى صراع ذي بعد آيديولوجي، ضد توجهات حكومة حزب العدالة والتنمية.

ضمّت الاحتجاجات الأولى مواطنين من مختلف فئات المجتمع التركي تساورها مخاوف بسبب بعض القوانين التي عملت حكومة حزب العدالة والتنمية على تنظيمها، كقانون تنظيم بيع المشروبات الكحولية، فبادلتهم الحكومة بالتواصل معهم بغية تبديد مخاوفهم، الأمر الذي لم يرق للمجموعات اليسارية والماركسية - اللينينيّة وفئات من «القوميين المتطرفين» غير المنضبطين في إطار حزبي، والتكتلات الراديكالية المعروفة، التي تجمعهم نقطة وحيدة، ألا وهي العداء لنهج وآيديولوجية حزب العدالة والتنمية، فعملت على خلق حالات صدام مع الشرطة وافتعال أعمال التخريب، وذلك من خلال مهاجمة المباني الحكومية وسيارات الشرطة والحافلات ووسائل الإعلام والمحلات التجارية والمصارف وأماكن أخرى، وحتى بعد إعلان الشرطة انسحابها من أماكن الاحتجاجات لم تسلم الممتلكات العامة والخاصة من أيدي تلك الجماعات. وكان أردوغان ميز في خطابه الذي ألقاه يوم 2 يونيو، بين المواطنين المحتجين وتلك الجماعات، مؤكدا حق المواطنين بالتعبير والاحتجاج، كما عبر نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية كذلك عن احترامهما لحقوق المواطنين المتمثلة بحق التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي.

لجأت الشرطة في اليومين الأول والثاني من المظاهرات إلى التعامل مع الأحداث وفق الطرق التقليدية، لكن رئيس الوزراء انتقد بشدة إفراط الشرطة في استخدام الغاز المسيّل للدموع، وأعلنت وزارة الداخلية فتح تحقيق حول الموضوع لمحاسبة المسؤولين، تلاه إصدار تعليمات خاصة بانسحاب الشرطة من «حديقة النزهة» المطلة على ميدان تقسيم من أجل السماح للمتظاهرين والمواطنين بدخول الحديقة.

سعت الحكومة إلى تخفيف حالة التوتر، إلا أن المجموعات المتطرفة حاولت التوجه إلى مقر رئاسة الوزراء التركية في منطقة «بشيكطاش» بمدينة إسطنبول، لتصعيد الموقف واستفزاز قوات الشرطة، حاملين بأيديهم العصي والهراوات والحجارة، متسببين بأضرار مادية كبيرة في المنطقة التي تعتبر من أرقى مناطق إسطنبول وأكثرها جذبا للسياح، ولم تكن الصورة مختلفة في العاصمة السياسية أنقرة، إذ تدخلت الشرطة من أجل الحيلولة دون الاعتداء على مقر الحكومة. والتقطت عدسات المصورين الكثير من الصور التي تظهر أولئك المتظاهرين وهم يعتدون على الشرطة والمباني الحكومية. سجلت الإحصاءات 64 حالة إصابة خفيفة وحالة خطيرة واحدة في صفوف المدنيين وذلك حتى يوم الاثنين 3 يونيو، فيما سجلت 244 حالة إصابة بين صفوف الشرطة وموت أحدهم فيما بعد. وبموازاة ذلك عملت مواقع التواصل الاجتماعي مثل «تويتر» و«فيس بوك» على نشر الكثير من الصور والمعلومات الزائفة التي استعانت بها بعض وسائل الإعلام العالمية، وخير دليل على ذلك ما نشرته منظمة العفو الدولية عن مقتل اثنين من المتظاهرين، لتقوم بعد ذلك بتدارك الأمر وتصحيح ما نشرته.

كما ظهرت في تلك الآونة ادعاءات مفادها أن وسائل الإعلام والصحافة التركية لم تقم بواجبها بتغطية تلك الأحداث، إذ واكبت مختلف وسائل الإعلام التركية تلك الأحداث منذ البداية، ونقلت أدق تفاصيلها لحظة بلحظة ولساعات طويلة.

إن مقارنة ما يحدث في تركيا، بالتطورات الجارية في دول الربيع العربي، هي مقارنة خاطئة تماما؛ فتركيا بواقعها السياسي المختلف، تختلف بواقعها عن تجربة البلاد العربية. كما أن موعد الانتخابات البلدية والرئاسية التي ستجري العام المقبل قد اقتربت، كذلك هو حال الانتخابات البرلمانية التي ستجرى عام 2015 وسط أجواء تملؤها الشفافية والنزاهة. أما عن الادعاءات التي يثيرها البعض بشكل مباشر أو غير مباشر بأن حكومة العدالة والتنمية هي عبارة عن حكومة سلطوية ديكتاتورية، هي عبارة عن ادعاءات ليست في محلها ولا تستند إلى دليل أو واقع ملموس.

ومن المؤكّد أنه ينبغي على حكومة «العدالة والتنمية» بذل جهود أكبر لفتح قنوات تواصل أكثر مع مختلف شرائح المجتمع التركي، من دون التمييز بين مؤيد أو معارض، إلا أن هنالك حقيقة في السياسة التركية يجب عدم إغفالها، والتي تتمحور حول واقعية وجود مجموعات لا يمكن أن تتقبل حكومة حزب العدالة والتنمية، لا لشيء إنما لتباينات آيديولوجية محضة، رغم كل الإخفاقات التي منيت بها تلك المجموعات. وفي السياق ذاته، عقد نائب رئيس الوزراء بولند أرينتش، مؤتمرا صحافيا في 4 يونيو مؤكّدا مشروعية مطالب المتظاهرين، منوها في حديثه إلى المجموعات التي تقوم بأعمال تحريضية. كما قدّم اعتذارا للمتظاهرين الذين تعرضوا لإصابات في بداية الأحداث، كما عقد أرينتش اجتماعا في 5 يونيو، مع ممثلي «منبر تقسيم» لمناقشة مشروع تأهيل الميدان وتقييم الأحداث الأخيرة. إن تركيا بنظامها الديمقراطي البرلماني المرن، تكفل لجميع المواطنين حق الدفاع عن حقوقهم والاحتجاج، لكن جوهر المطالبة بتلك الحقوق تتجلى في عدم الإضرار بحقوق الآخرين واحترامها، وعدم ارتكاب أعمال خارجة عن القانون، كما أن تلك الأحداث أكّدت مجددا أن الشعب التركي لن يمنح الفرصة للأطراف الساعية لبث روح الفتنة والعنصرية والالتفاف على مطالبه المشروعة، وأظهرت في الوقت نفسه مدى نضوج الديمقراطية في تركيا، ولم تكن أبدا كما اشتهى أن يظهرها البعض على أنها ثورة شعبية، حيث إن تركيا عاشت ربيعها في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2002 حينما فاز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التي أجريت في ذلك اليوم.

* نائب أنقرة عن حزب التنمية والعدالة