التقارب المتقلب في تركيا

TT

ثلاثة عوامل رئيسة، كانت في طور التبلور على مدى فترة من الزمن، أفضت إلى أعمال العنف التي نشبت خلال الأيام القليلة الماضية في إسطنبول وغيرها من المدن التركية الكبرى. ولا شك أن العواقب المتغيرة لهذه التطورات فرضت تحديات هي الأخطر على إرث رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وفترة حكمه التي لم تشهد تحديا كهذا من قبل.

أول هذه العوامل، وهو إلى حد بعيد الأكثر إقلاقا بالنسبة لشرائح واسعة من المجتمع التركي، كان على شكل حرب ثقافية بين العلمانيين في البلاد من جهة، ومن جهة أخرى فئة المتدينين التي تشهد تناميا في تعدادها مع تزايد مستمر في ثقتها بنفسها. فالجمهورية التركية أظهرت منذ تأسيسها عام 1923 التزاما صارما بالمبادئ العلمانية التي وضعها مؤسس الدولة، مصطفى كمال أتاتورك. ولكن على مدى العقود القليلة الماضية، بدأت الطبقة الوسطى التركية التي تنظر إلى نفسها على أنها أوروبية و«عصرية» تواجه أقلية متزايدة من أتراك ذوي توجهات دينية محافظة اجتماعيا. وبالنظر إلى تنامي ثراء أصحاب التوجه المحافظ وصعودهم المطرد، من الناحية الاقتصادية أولا، ثم سياسيا خلال العقد الماضي، بات أنصار أتاتورك، ولأول مرة منذ تأسيس الجمهورية، يجدون أنفسهم في موقف دفاعي.

أما العامل الثاني فتمثل في عملية التحرير المستمرة للنظام السياسي التركي على مدى العقد الماضي أو نحو ذلك. فبعد آخر تجربة حكم عسكري مباشر عاشتها تركيا، في الفترة من 1980 - 1983، كان النظام الديمقراطي غير المكتمل في البلاد يعمل دائما تحت مظلة الجيش، التي غالبا ما كانت تسمى بالدولة العميقة التي تعتبر نفسها الوصي على تركة أتاتورك. ولكن في عام 1997، عندما أظهر رئيس الوزراء آنذاك نجم الدين أربكان، علامات عن احتمالية أن يكون لديه ميول دينية، قام الجيش بدفعه إلى الاستقالة من خلال «انقلاب صامت».

وقد شهدت فترة ولاية أردوغان انتقالا مطردا من الديمقراطية الليبرالية التي كانت تشهدها البلاد، إلى نظام سياسي جدير أكثر بهذه التسمية. فقد تم تقليص دور الجيش إلى حد كبير. وفي عام 2012، وبعد محاكمة علنية مثيرة، تمت إدانة أكثر من 320 ضباطا عسكريا على رأس عملهم، وعدد مماثل من المتقاعدين، بالتخطيط لانقلاب ضد أردوغان في عام 2003. وتم الحكم بالسجن على أكثرهم، بينما تمت إحالة القسم الآخر منهم إلى التقاعد المبكر. واليوم، لم يعد الجيش التركي تقريبا لديه القوة السياسية التي كان يمتلكها سابقا.

في نفس الوقت، فإن مطالب الاتحاد الأوروبي جعلت النظام السياسي في تركيا يبدو ديمقراطيا على نحو أكبر، وخصوصا في ما يتعلق بالتعامل مع الأقلية الكردية في البلاد. فالأكراد في تركيا بدأوا تمردا مسلحا في عام 1984، أدى حتى عام 2013 إلى موت نحو 45000 تركي. وفي إطار مساعي تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، انخرطت أنقرة في محادثات سلام مع كبرى الجماعات الكردية المتمردة، حزب العمال الكردستاني. وفي مايو (أيار) 2013، أعلن الحزب انسحابه من جنوب شرقي تركيا إلى شمال العراق، ما شكل نقطة تحول كبرى في حياة الجمهورية التركية والإنجاز الأكثر إثارة للإعجاب لأردوغان.

والمفارقة هنا هي أن عملية التحول الديمقراطي في تركيا استمرت رغما عن، وليس بفضل، أردوغان؛ فشخصية رئيس الوزراء وطبعه المنفعل شكلت العامل الثالث الذي ساهم في بروز مشاعر الإحباط لدى العامة خلال الأيام القليلة الماضية. وعلى الرغم من أنه قد يكون السياسي التركي الأكثر أهمية منذ عهد أتاتورك فإن الثقة المتزايدة لدى أردوغان منذ فوز حزبه للمرة الثالثة في الانتخابات البرلمانية في يونيو (حزيران) 2011، غالبا ما ينظر إليها على أنها سلوك مرفوض. كما أن أردوغان لم يخفِ رغبته في أن يصبح الرئيس المقبل للبلاد، وهناك شائعات، لم ينفِها، حول نيته تحويل منصب الرئاسة، الذي يعتبر رمزيا إلى حد بعيد، إلى المؤسسة السياسية الأقوى في البلاد، وبمعنى أدق، تحويل النظام البرلماني في تركيا إلى نظام رئاسي.

إن كل واحد من هذه العوامل الثلاثة – الفجوة الثقافية والفصام الاجتماعي، والانتقال إلى نظام ديمقراطي أكثر وضوحا، وصعود زعيم سياسي اتسمت فترة ولايته بمسائل شائكة متزايدة - يمكن أن يشكل مصدر قلق عميق. وإن تقارب هذه العوامل، في محيط إقليمي تعمه الفوضى والعنف، شكل هزة لحكم أردوغان وللمراكز التجارية والسياسية في تركيا بشكل لم يسبق له مثيل.

وإذا ما نظرنا إلى المستقبل، فمن المرجح أن يميل أردوغان للتواضع إلى حد ما أمام الغضب الشعبي الذي كان في معظمه موجها إليه شخصيا. وليس لنا سوى أن ننتظر لنرى ما إذا كان أردوغان سيخفف من شخصيته الآمرة المتنامية. ولكن المهمة الأكثر صعوبة هي إدارة ما يبدو أنه فجوات ثقافية لا يمكن تجاوزها في البلاد، ونضالها من أجل أن تجد لها أساسا ديمقراطيا متينا. وحتى لو هدأت المظاهرات التي انطلقت في الأيام القليلة الماضية، وعادت الحياة إلى وضعها الطبيعي، فإن تركيا لا يزال لديها عدة تناقضات داخلية عميقة وقوية بحاجة إلى إيجاد حلول لها.

* بروفسور ومدير مركز الدراسات الدولية والإقليمية في كلية الشؤون الدولية بجامعة جورجتاون في قطر