نمت وأنا أهذي باسم (قبلان)

TT

من ضمن مشاكلي التي تعد ولكنها من حسن الحظ لا تحصى، أنني كثير النسيان، خصوصا لمن يمرون علي في حياتي من فصيلة الرجال، لأنني بكل صراحة لا أوليهم أي اهتمام، لأنهم ليسوا أكبر همي في هذه الحياة الرائعة والمتسارعة، فالحياة ممتلئة وزاخرة بالكثير من السكريات والمشهيات والمرطبات وحتى (الحراقات) التي لا أريد أن أفوتها، والتي لا تترك لي الفرصة حتى لكي أحك ذقني واسترد أنفاسي، لهذا أنا طوال عمري أعيش وأنا (ألهث)، وأستغرب كيف أنني إلى الآن لم أمت بالذبحة أو السكتة القلبية (!!).

وكلامي الفج هذا ما هو إلا مدخل لموقف حصل لي قبل أكثر من شهر عندما كنت جالسا في أمان الله مع أحد الزملاء في المطار ننتظر رحلتنا، وإذا بي أتفاجأ برجل طويل الساقين عريض المنكبين، يقف أمامي وهو يقول: مش معقول، إنني أراهن على أنك لم تتوقع رؤيتي، إيه الصدفة الحلوة دي؟!، وانتزعني من مقعدي عنوة، وأخذ يمطرني بالقبلات العنيفة، مذكرا إياي بالأيام الخوالي، وكيف أنه مرت علينا عدة سنوات لم نلتق فيها.

كل هذا كان يجري وأنا مستسلم بين يديه، أقدح زناد فكري لتذكر اسم وشكل وتاريخ هذا الرجل دون جدوى.

ومجاملة مني له، بادلته القبلات بأحر منها، والابتسامات بأعرض منها، والكارثة أنه دخل معي (في الغويط)، وأخذ يذكرني بالسهرات الحميمة التي يندى لها الجبين، كل هذا وأنا مشدوه ومتبلم لأن كل كلامه لا يمت إلي بأي صلة. ومن حسن الحظ أن (الميكرفون) أعلن دخول الطائرة لرحلته، فتركني، أو بمعنى أصح أفرج عني وهو يركض. وقبل أن يعطي المسؤول تذكرة الدخول، صاح بي قائلا: على فكرة، (قبلان) يهديك التحيات، فزاد استغرابي لأنني لا أعرف قبلان ولا (فلنتان)، ولكنني ومع ذلك جاوبته مجاملا وصارخا بصوتي (المصرصع) قائلا له: أرجوك سلم لي عليه، ولفت صراخنا أو صياحنا الجميع، وإذا باثنين يلبسان ملابس مدنية يأخذانه وينتحيان به جانبا ويتكلمان معه، ولاحظت أنه يشير لهما بيده نحوي، فأتاني أحدهما طالبا أن أسير معه وألزم الصمت ودون أن أتكلم، ولكي لا يثيرا فضول الناس أخذانا في غرفة مغلقة وأخذا يحققان معنا.

والحمد لله أن التحقيق لم يسفر عن أي مكروه، سوى أن رحلته ورحلتي فاتتا على كلينا.

وعندما أطلقا سراحنا بعد ساعة كاملة، سألته عن اسمه وعن (قبلان) هذا الذي أقحمه علي إقحاما، فقال لي: كيف ما تعرفه وهو كان يدرس معنا في بلدة (عيون الجوا) بالقصيم؟!

قلت له: يا أخي، أنا طوال عمري لم أذهب إلى هذه البلدة، فكل حياتي قضيتها ما بين الطائف وجدة، حتى مكة المكرمة كنت أمر عليها في الطلوع والنزول مرور الكرام.

عندها، انتبه إلى نفسه وهو يقول: سبحان الله! (يخلق من الشبه أربعين)، آسف يا أخي. فقلت له: شكرا على أسفك، ولكن بعد إيه؟! بعدما جبت لي (الكفيه)، روح الله لا يستر عليك.

تصوروا أنني بعد ذلك لم أجد أي مقعد في أي رحلة للمكان الذي كنت أقصده إلا في اليوم الثاني، ورفيقي الذي كان معي تركني وسافر، ونمت ليلتها في فندق المطار، وأنا أهذي باسم (قبلان).

[email protected]