لا تلعنوا الظلام

TT

لعجز شديد في الميزانية، ترتب عليه عجز أشد في السولار اللازم لتشغيل محطات توليد الكهرباء، بدأت الحكومة في قطع الكهرباء عن كل أحياء المدن والقرى المصرية لعدة مرات في اليوم الواحد، نهارا وليلا. المشكلة هي أن الناس لا تعرف بالضبط متى ستنقطع، وهذا يفتح الباب للمخاوف العادية للتحول إلى رهاب مرضي وهو ما يحدث لي هذه الأيام، يطاردني هاجس مؤلم، سأدخل الأسانسير، ويبدأ في الحركة ثم تنقطع الكهرباء. مصعد بيتنا قديم، ليس فيه تلك الإمكانات التي تتيح إنزاله يدويا، غير أنه والحق يقال، له بعض الملامح الإنسانية، إذ هو يغضب ويتعطل عندما تحدث مشكلة بيني وبين البواب. ولكن بعد متاعب كثيرة بدأ ينتظم في العمل، فلا يتعطل أكثر من عشرين مرة في الشهر. في الغالب هذا الأسانسير كان وابور حرث تم تعديله في إحدى ورش وكالة البلح. غير أنها لم تعد مشكلتي وحدي هذه الأيام، هي مشكلة مصر كلها ومع ذلك أعترف بأنني أناني إلى الدرجة التي تجعلني أفكر في نفسي، ماذا أفعل عندما أجد نفسي محبوسا داخل الأسانسير وقد استولت علي رغبة جامحة في دخول الحمام وهو الأمر الطبيعي عند شخص يقترب من الثمانين.

ولكن واحدا من أنصار الحكومة لفت أنظار الناس على شبكة التواصل الاجتماعي للجانب الإيجابي فيما يتصورونه كارثة، إن انقطاع الكهرباء يجب أن يدفع الناس إلى التفكير في ظلام القبر، لم يكن يمزح فقد أضاف إلى ذلك بعض ما تيسر من الكلام الفارغ المنتشر هذه الأيام، ليست كارثة إذن، إنه برنامج تدريب حكومي يومي للناس ليكونوا أكثر قدرة على التعامل مع ظلام القبر، هو برنامج لتأهيل الأحياء ليكونوا أمواتا جيدين. يا له من شعب جاهل شكّاء ناكر للجميل، ماذا تفعل له الحكومة أكثر من ذلك؟ هل كان يجب أن تتركه يواجه ظلام القبر فجأة بغير أن يكون مدربا على ذلك كما تفعل بقية حكومات الأرض غير النهضوية مع شعوبها؟ أنا شخصيا ليست لدي مشكلة مع ظلمة القبر، بل أراها فرصة طيبة للاسترخاء والتخلص من التوتر الذي لازمني طول عمري وإعادة التفكير فيما ارتكبته من سيئات أقصد من كتابات.

أواصل كتابة مقالي، وفجأة تنقطع الكهرباء، الحمد لله، لست في الأسانسير، عدد كبير من البشر خرجوا إلى البلكونات، وسمعت صوتا في السحر تماما كعمر الخيام، قال بصوت قوي: الدنيا ضلمة.

وكأنه يعلن سرا لا نعرفه، ورد عليه واحد من الجيران مصححا: ما تقولش الدنيا ضلمة.. قول الدنيا نهضة..

وخرج رجل في النافذة المقابلة وقال بصوت وقور: بدلا من أن تلعنوا الظلام.. أشعلوا شمعة.. أو روحوا اشتروا لمبة غاز.. عيشوا عيشة أهاليكم..

وعلى الفور ارتفعت صيحات عشرات الناس تقول كلمات كلها غير صالحة للنشر، يا رب.. متى ينتهي هذا الكابوس؟