احتجاجات تركيا لن تكون الأخيرة

TT

كانت رائحة الغاز المسيل للدموع لا تزال عالقة في أجواء حديقة «غيزي» في إسطنبول، عندما مررت بالمكان مع عائلة بعد منتصف ليلة الأربعاء. كان المكان هادئا نسبيا تحت أشجار الجميز، في فاصل عابر بين نوبات من الاضطراب. كانت الشرطة قد أمطرت الحديقة يوم الثلاثاء بالغاز وأخلت الأماكن المحيطة بساحة «تقسيم» مستخدمة خراطيم المياه والرصاص المطاطي، لتفرق الآلاف من المحتجين المذعورين وتدفع الكثير منهم للجوء إلى فندق «داود» القريب. في صباح الأربعاء، ملأ المتظاهرون الغاضبون الحديقة مرة أخرى، بعضهم اعتراضا على خطة الحكومة باستبدال مركز للتسوق بالأشجار، والبعض الآخر احتجاجا على استخدام العنف من قبل الشرطة، لكن الجميع اتحدوا في غضبهم من أسلوب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على نحو متزايد في الحكم. استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه مرة أخرى يوم السبت، لتخلي الحديقة وتطارد المحتجين إلى الشوارع، ووصل الأمر إلى إطلاق الغاز على الفندق. كان المقرر أن يدخل أردوغان منتصرا إلى إسطنبول لحضور مظاهرة حاشدة يوم الأحد. لم يتضح تحديدا كيف سينتهي كل هذا.

لكن حتى وإن انحسرت الاحتجاجات، لكنها لن تكون نهاية الاضطرابات التي تشهدها البلاد. وقد سعت الجهود لشرح ما حدث في تركيا خلال الأسابيع القليلة الماضية إلى البحث عن أوجه تشابه تاريخية. فهل ما حدث شبيه بما حدث في فرنسا عام 1968، أم حركة «احتلوا وول ستريت» في أميركا، أم أنه ميدان تحرير آخر، في امتداد للربيع العربي؟ هل هذه هي الدولة التي كان من المفترض أن تكون نموذجا للعالم العربي الجديد؟ أنا أرى تشابها مختلفا؛ أرى أنها أشبه بالحركة الخضراء في إيران قبل أربعة أعوام.. فكما هو الحال في تركيا، كان غالبية المتظاهرين الإيرانيين هم الطبقة المتوسطة من أبناء الحضر. وهاجم النظام المظاهرات السلمية بنطاق واسع من الوسائل الوحشية المسخرة لخدمته، وتمكن في نهاية المطاف من سحق الحركة والبقاء على رأس السلطة.

لكن يوم الجمعة كان موعد الناخبين الإيرانيين لانتخاب خلف للرئيس أحمدي نجاد، وحتى ذلك الحين كانت الخيارات محدودة أمام الموالين لآية الله علي خامنئي. تختلف تركيا، بطبيعة الحال، عن إيران من حيث كونها مجتمعا مفتوحا وانتخابات حرة ونزيهة. تعتمد حكومتها على الدعم الشعبي. ولكن يبدو أن أردوغان سيخرج من الاحتجاجات من دون منافس حقيقي لحزب العدالة والتنمية. فهم على يقين من سيطرتهم عليها، حتى الآن على الأقل.

مظاهرات «غيزي» والمظاهرات التي اندلعت في المدن التركية الأخرى قوضت من شرعية حزب العدالة والتنمية في الخارج والداخل. لم يعد حزب العدالة والتنمية باستطاعته أن يقدم نفسه للعالم الخارجي على أنه حزب في نظام ديمقراطي ليبرالي يقوم على سيادة القانون. وفي داخل تركيا، فقد مصداقيته في أعين هؤلاء الذين ساندوه في الماضي ضد الجيش، والطبقة الوسطى الذي ساندها. واعتمادا على عقود طويلة من التحرر الاقتصادي في تركيا ومسيرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، رفع أردوغان الدخل القومي والازدهار السكاني التركي بشكل كبير. وقدم أيضا إصلاحات جعلت السكن والرعاية الصحية والتعليم أكثر سهولة. وشهدت الطبقة المتوسطة في تركيا ازدهارا حقيقيا، مع ما صاحبه من النزعة الاستهلاكية والفردية. جزء من هذه الطبقة المتوسطة، علمانية بالأساس، كانوا أكثر غضبا بشأن الجوانب الأخرى لجدول أعمال الحزب الحاكم. ثار سكان المناطق الحضرية الذين ظلوا هادئين ومشتتين طويلا ضد تعسف الحكومة.

انفجر الغضب ضد محاولة منع المواطنين من المشاركة في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم. هذا السخط له جذور أيضا في التكلفة الاجتماعية للسياسات الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية وشغفه بالبناء. والحقيقة أن مشاركة مجموعات من المناطق الأكثر فقرا في إسطنبول، فضلا عن إشراك جماهير النادي لكرة القدم، أعطت الحركة هوية تعدد الطبقات.

وأخيرا، تعكس الحركة مقاومة محاولات الحزب تنظيم الحياة الاجتماعية والخاصة - على سبيل المثال، فرض مزيد من القيود على الكحول وعلى الإجهاض ودعوة النساء إلى إنجاب ثلاثة أطفال على الأقل لكل منهن. لقد أظهر الأتراك بمظاهراتهم أنهم يسعون إلى إعادة تعريف المواطنة وتوسيع الفضاء الديمقراطي الليبرالي في سياسات البلاد. وقد تحدى المتظاهرون، خصوصا أولئك الموجودين في ساحة «تقسيم»، فهم أردوغان لمعنى الأكثرية الديمقراطية.. فتعدديتهم الاستثنائية تقف في وجه التعريف الديني والثقافي الصارم للحزب الحاكم للمواطنة والمجتمع. هذه الحركة المدنية العفوية والتي لا تنتمي إلى تيار سياسي لم يسبق لها مثيل في تركيا، وتعكس الحس الاجتماعي العميق الجذور الذي لن يغيب، ولو للحظة. وحتى وإن قمع، فسوف يجد عاجلا أو آجلا منفذا سياسيا. في النهاية، هذا الاضطراب يتلخص حول هوية تركيا في المستقبل. وهذه الهوية تمثلت بشكل أفضل في الكثير من الفكاهة والتعددية والليبرالية بين المحتجين، عنها لدى النهج العنيد والمحافظ للحزب الحاكم.

* أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية في جامعة قدير هاس في إسطنبول

* خدمة «واشنطن بوست»