درس من بورما

TT

أشرت في الأيام الماضية إلى حسرتنا على عجز أرحامنا عن إنجاب رجال من طراز غاندي ومانديلا. أريد أن أضيف لذلك شخصيتين أخريين؛ السيدة اونغ سان سو تشي والجنرال ثين شين، وكلاهما من بورما. ولربما يتذكر القراء أيضا رأي الزميل نديم فرحات، حين قال إن الزواج بالغربيين والغربيات هو الوسيلة الوحيدة لغرس روح الديمقراطية في نفوسنا. لا شك أن الزميل نديم سيجد خير مصداق لطرحه في هذه المرأة البورمية التي تزوجت من رجل إنجليزي توفي بعد سنوات قليلة من حياته معها، بيد أنها كانت كافية لغرس روح الديمقراطية في نفسها، فكرست بقية حياتها للنضال من أجل إقامة الديمقراطية في بلادها، حتى اضطر العساكر إلى زجها في السجن.

كم امرأة من نسائنا تفعل ذلك؟ كلي آذان مصغية لمن يدلني على مثلها؛ فأنا لا أعرف أي واحدة منا سارت هذا المشوار. سرعان ما أصبحت السيدة اونغ رمزا وعنوانا على نطاق عالمي لحركة تحرر المرأة والسعي من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان. هز نضالها واعتقالها وسجنها اهتمام الحكومات الغربية، إلى حد فرض عقوبات اقتصادية قاسية على الحكومة البورمية.

امتدت موضة الضباط الأحرار، التي اجتاحت الشرق الأوسط في الخمسينات، فوصلت لباكستان وبورما. انتزع الحكم في بورما شلة من الجنرالات، بدعوى أنهم عازمون على إقامة ما سمّوه بالديمقراطية المهذبة. قصدوا بها إجراء انتخابات تعطي برلمانا يسيطر عليه الضباط، على اعتبار أن العسكر هم من يعرفون السلوك المهذب. عارضت وفندت حركة اونغ سان سو تشي هذه المحاولة لإقامة ديمقراطية لا مهذبة، ولكن كاذبة فسحت المجال للعسكر بأن ينهبوا البلاد كما يحلو لهم، ربما كجزء من السلوك المهذب. فرض الغرب بقيادة الولايات المتحدة سلسلة متدرجة من العقوبات الاقتصادية على بورما أدت إلى إفلاس النظام.

كان بين هؤلاء العساكر ضابط واحد تمتع بما يكفي من قوة الضمير، التي جعلته يشعر بالضرر والمعاناة التي أحاقت بالبلاد. استطاع أن يقنع زملاءه الجنرالات بإطلاق سراح هذه المرأة الأرملة عام 2010. ثم اجتمع بها في السنة التالية في دارها حيث وضعوها تحت الإقامة الجبرية. تداول الاثنان شؤون الوطن. استطاع الطرفان الاتفاق على منهج حكيم، المنهج البورقيبي؛ الانتقال التدريجي على مراحل. كان من ذلك إجراء انتخابات جديدة حرة حقا بحيث لا يسيطر العسكر على النتائج أو على المجلس المنتخب.

بادر الغرب إلى اتباع سياسة العصا والجزرة. كلما خطا النظام خطوة أخرى نحو احترام حقوق الإنسان وتسليم الحكم لممثلي الشعب، كافأتهم الدول الغربية بالتخفيف من العقوبات وإلغاء بعضها. خطوة خطوة، قطعة قطعة. تضمن المنهج إقامة نظام فيدرالي يعطي المسلمين الذين يشكلون أقلية كبيرة، حكومتهم المحلية الخاصة بهم لتصفية هذا النزاع المرير بين المسلمين والبوذيين.

العملية من أولها لآخرها تعطي مثالا رائعا على إمكانيات الجهاد المدني السلمي وفاعلية العقوبات الاقتصادية، بما نأمل منه أن يعطينا ويعطي بورما وكل العالم مثالا رائعا على التطور التدريجي السلمي لما هو أحسن.