الرسالة من طهران إلى إسطنبول

TT

بينما كان الإيرانيون في الشوارع يحتفلون بفوز روحاني وانتقام «الثورة الخضراء» من المحافظين والمتشددين بعد أربع سنوات من أحداث انتخابات 2009 والقمع العنيف للاحتجاجات التي أعقبتها، كان أردوغان يشن هجوما عنيفا على الشباب المحتجين في «تقسيم» وفي متنزه غازي مستخدما لغة تشبه لغة الأنظمة الاستبدادية التي هاجمها خلال أحداث الربيع العربي، ويرسل قوات الأمن لإنهاء الاحتجاجات. كان التناقض واضحا وصارخا بين المشهدين في طهران وإسطنبول، لكن الرسالة الضمنية واحدة، وهي أن هناك أزمة تكشف نموذجين قيل في أوقات مختلفة أنهما نموذج لأحزاب الإسلام السياسي (في الحالة التركية) أو ملهم للثورات العربية (في الحالة الإيرانية). فإيران ادعت في أوج ثورات الربيع العربي أنها ألهمت هذه الثورات داعية الأنظمة الجديدة فيها إلى أن تقتدي بالنموذج الإيراني. تركيا الأردوغانية أعلنت من جهتها «وصاية» على الثورات العربية، وقيل كلام كثير عن صلاحية نموذجها للدول التي ركبت موجات الثورات فيها أحزاب إسلامية.

إيران كانت تفعل ذلك بينما شهد العالم كله قمعها العنيف للثورة الخضراء ورموزها، وانتخاباتها «المزورة» لصالح مرشحي المرشد والحرس الثوري، وها هي اليوم بعد أربع سنوات تكتشف أن كل ذلك القمع لم يخمد توق الناس إلى التغيير والحرية وإخراج البلد من عزلة وضعتها في أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة. هل في نموذجها ما يستلهمه الناس، خصوصا في دول الربيع العربي؟ الحقيقة أن إجراء انتخابات لا يعني وحده أن في البلد ديمقراطية، فالكثير من الأنظمة الاستبدادية كانت تجري انتخابات واستفتاءات يفوز فيها الرئيس بـ99 في المائة، وأحيانا تخفض النسبة إلى ما دون ذلك لإعطائها شيئا من «المصداقية». إيران ليس فيها نموذج ديمقراطي يحتذى في دول الثورات العربية، وهي ذاتها تنتظر ثورة على الثورة لإصلاح الأوضاع وإخراج البلد من أزمته وعزلته.

انتخاب حسن روحاني رئيسا ومن الجولة الأولى، كان بلا شك مفاجأة مدوية، وانتقاما مؤجلا للثورة الخضراء. فالشباب الإيراني الذي احتفل طوال الأيام الماضية بانتصار روحاني كتب في المواقع الإنترنتية يقول: «صوتنا كان أخضر وليس بنفسجيا»، الأخضر كان لون حملة مير حسين موسوي 2009، والبنفسجي كان لون حملة روحاني. الرسالة واضحة، وهي أن نار الثورة الشبابية الخضراء ظلت متقدة تحت رماد القمع، إلى أن حانت لحظة الثورة من جديد ولكن عبر صناديق الاقتراع هذه المرة. الظروف ساعدت في التغيير الذي حدث، لأن المرشد لم يرد أن يتدخل لصالح المتشددين هذه المرة، مدركا حجم المشكلات والنقمة الداخلية، في بلد يواجه عزلة خانقة بسبب العقوبات الدولية، والأزمات الإقليمية، والتحديات الاقتصادية والمعيشية بعد أن تراجعت قيمة الريال بأكثر من 60 في المائة، وارتفعت البطالة إلى نحو 40 في المائة، والتضخم إلى أكثر من 22 في المائة، وأصبح الغلاء والفقر مشكلة كبرى للمجتمع الإيراني. أمام جبل التحديات الماثل أمامها فإن إيران إما أن تبقى في حالة أزمة واستقطاب، أو تبدأ مسيرة مصالحة وإصلاح حقيقي للخروج من أزماتها، وفي الحالتين فإنها تصلح «درسا» ولكن ليس «نموذجا» يحتذى.

ماذا عن «النموذج التركي»؟

أزمة الأسابيع الماضية كشفت وجها آخر لحزب العدالة والتنمية الذي اعتبر نموذجا «صالحا» للأحزاب الإسلامية لكي تحتذيه باعتباره ديمقراطيا حقيقيا. فأردوغان ظهر بوجه أعاد إلى الأذهان كل تصرفات الأنظمة الاستبدادية التي كان يهاجمها، وبسبب تصرفاته تحولت الاحتجاجات على الخطط الحكومية المتعلقة بمتنزه غازي، إلى مواجهة أوسع وأشرس وضعت تركيا على المحك، ولطخت صورة رئيس الحزب الإسلامي الحاكم الذي ظهر بصورة من لا يريد سماع صوت المعارضة، ولا يحتمل أي صوت مخالف لرغباته وسياساته. ففي مواجهة الاحتجاجات والانتقادات لجأت الحكومة إلى لغة العنف، ووصف أردوغان المتظاهرين باللصوص والإرهابيين والخارجين عن القانون، واعتبر ما يحدث «لعبة تحاك ضد أمتنا»، قائلا إن المحتجين مستغلون من قوى خارجية ومجموعات إجرامية. وفي حين أنه توعد بسحق الاحتجاجات قائلا إنه «لا يمكن اللجوء إلى الشارع في الديمقراطية»، ناقض نفسه فقام بتجييش أنصاره وأنزلهم إلى الشوارع في استعراض للعضلات يذكر المرء بما قام به «الإخوان» في مصر للدفاع عن مرسي وترهيب الخصوم.

الرسالة من تركيا أيضا توجه ضربة لما وصف بالنموذج للأحزاب الإسلامية، وتثير مجددا أسئلة بشأن مدى إيمان هذا التيار بالديمقراطية عندما لا تسير وفق هواه، وميله إلى النزعة الاستبدادية. متظاهر تركي لخص الأمر بقوله إن «أردوغان هو أسوأ أنواع الديكتاتوريين لأنه يعتقد أنه ديمقراطي». إنه تلخيص قاس لكنه يعكس حجم أزمة كامنة لا تواجه تركيا وحدها، بل تجد صداها اليوم في مصر وفي كثير من دول المنطقة، حول كيفية التعامل مع أحزاب الإسلام السياسي لا سيما بعد الربيع العربي، الذي قاد بعضها إلى السلطة.

[email protected]