الريس أحمد الكريتي

TT

هذا المقال ليس عن مفكر أو فيلسوف معروف أو حتى عن سياسي أو موظف ذي منصب مرموق في الدولة، لكنه عن الريس أحمد الكريتي الذي غيبه الموت عنا منذ أيام قليلة، وهو عامل بسيط استطاع بفكره وموهبته الفطرية أن يحجز لنفسه مكانة مرموقة في عالم الآثار وأن يخلد اسمه مع مشاهير علماء الآثار رغم أنه لم ينَل أي درجة علمية إلا أن اسمه مذكور في مراجع علمية كثيرة سواء عربية أو أجنبية.

ينتمي الريس أحمد الكريتي إلى مدينة قفط شمال محافظة الأقصر في جنوب مصر، ونزح مع أبيه وعائلته إلى سقارة حيث كان أبوه وعمه يعملان بالحفائر الأثرية مع علماء الآثار الأجانب والمصريين. وتعلم كل من الريس أحمد وأخيه طلال كل فنون ومهارات الحفائر الأثرية، وأظهر الريس أحمد منذ صغره مهارة خاصة في رفع وتحريك الكتل الحجرية الضخمة وفتح التوابيت الثقيلة وذلك باستخدام أدوات بسيطة تحافظ على النقوش والرسومات الأثرية، هذا بالإضافة إلى أعمال الترميم المعماري للمقابر والمعابد الأثرية. وقد بدأ الريس أحمد عمله بالحفائر كعامل حفائر بسيط، بعدها استطاع الحصول على وظيفة دائمة بهيئة الآثار، وأصبح عاملا فنيا وعمل مع معظم البعثات الأثرية بسقارة وغيرها من المناطق الأثرية كرئيس للعمال، ووصل إلى مرتبة باش ريس حفائر، أي كبير رؤساء عمال الحفائر.

وكانت معرفتي بالريس أحمد عندما كنت رئيسا لآثار الجيزة وسقارة وكشفت البعثة التشيكية عن مقبرة لم تمس من قبل للمدعو إيوف عا موظف القصر في عصر الأسرة 26 أو ما يعرف بالعصر الصاوي. وكانت مومياء إيوف عا مدفونة داخل عدد من التوابيت المتداخلة والموضوعة جميعها داخل تابوت حجري عملاق يصل وزنه إلى 20 طنا! كيف يمكن فتح تابوت مثل ذلك دون خدش ما يحتويه؟! وكانت المعجزة في ما فعله الريس أحمد بذكائه الفطري والعلم الذي ورثه عن أجداده المصريين القدماء الذين بنوا الأهرامات ونصبوا المسلات.. ووجدت في هذا الرجل تواضعا لم أرَه في إنسان قط.. وكان ينشد مع عماله أناشيد جميلة تحفزهم على العمل الشاق وتجعل كل تركيزهم في ما يعملون، وما هي إلا ساعات قليلة حتى كانت جميع التوابيت مفتوحة والمومياء أمام أعيننا سليمة لم تمس وكأن من وضعها في مكانها هو نفسه من يكشف عن وجهها بعد أكثر من 2500 سنة!

وبعد ذلك بسنوات كثيرة كنت أقوم بالحفر في الواحات البحرية، وكشفت عن مقبرة حاكم الواحات البحرية في عصر الملك أمازيس (أحمس الثاني) من الأسرة 26، وعندما كشفنا عن حجرة الدفن وجدنا أنفسنا أمام تابوت ضخم من الحجر الجيري الملكي ويصل حجم الغطاء إلى نحو 6 أطنان، وبالطبع قمت باستدعاء الريس أحمد وأخيه الريس طلال لفتح التابوت، وكانت تلفزيونات العالم تنقل الحدث على الهواء مباشرة ليشاهد العالم كله عبقرية هذا الرجل في تحريك الكتل الحجرية العملاقة والحفاظ على الآثار، ونال الريس أحمد شهرة عالمية. وعندما قمت بالكشف عن هرم الملكة - أم الملك تتي أول ملوك الأسرة السادسة – وجدنا تابوت الملكة من الغرانيت الوردي، وبالطبع كان بطل هذا الحدث هو الريس أحمد الكريتي العبقري المتواضع بجلبابه الصعيدي وعمامته الوقورة.

لقد تربت أجيال من العمالة المهرة ومن الأثريين على يدي ذلك الرجل، وجميعهم كان يسير خلف جثمانه يشيعونه لمثواه الأخير بعد أن سجل اسمه في سجل العظماء في عالم الآثار المثير... رحم الله الريس أحمد الكريتي وأدخله فسيح جناته، وألهم أسرته ومحبيه الصبر والسلوان.