نقص الأطباء.. ومبررات ارتفاع المضاعفات

TT

المطلوب في حقل المعلومات الطبية، هو العلم إما بثبوتها أو العلم بنفيها، والطريق إلى تلك المعرفة هو البرهان والدليل. والحقيقة المعتبرة في كل برهان ودليل في العالم، هي اللزوم، وكل ما كان مستلزما لغيره بحيث يكون ملزوما له فإنه يكون دليلا عليه وبرهانا له، فمن عرف أن هذا لازم لهذا، استدل بالملزوم على اللازم. واستنتاجات الدراسات الطبية لا تخرج عن هذه المقدمات من كلام أهل الفلسفة والمنطق، وعلاقة السبب والنتيجة إحدى وسائل الاستنتاجات تلك، وهي بداهة يحكمها ثبوت البرهان والدليل الموصل إلى المقصود بالصحة أو الخطأ، وارتباط البرهان بوجود اللزوم يظل هو الأساس.

ضمن عدد 31 مايو (أيار) من مجلة «مدونات علم الجراحة» (Annals of Surgery) الأميركية، نشر الباحثون من جامعة كارولينا الشمالية نتائج دراستهم التي قد تبدو للبعض بسيطة جدا في فكرتها وبديهية جدا في نتائجها حول تأثيرات توفر أو نقص أطباء الجراحة في منطقة ريفية ما. وهي بسيطة جدا وبديهية جدا لأنها تقول إن عيش مجموعة من الناس في منطقة يوجد بها عدد قليل من أطباء الجراحة يجعل الناس في تلك المنطقة أكثر عرضة للمعاناة من مضاعفات التهاب الزائدة الدودية appendicitis، وخصوصا أحد المضاعفات المحتملة وهي تمزق الزائدة الدودية ruptured appendix، أو ما يسمى أيضا انفجار الزائدة الدودية.

وقال الباحثون: «الدراسة تظهر أن الوصول إلى الرعاية الجراحية شأن مهم، وأن تدني فرص الوصول إليها له تبعات حقيقية تؤثر على صحة الناس». وفي سبيل العمل على تسهيل الوصول ذلك، ثمة بالولايات المتحدة حركة تدعى «حركة تقديم الرعاية» (Affordable Care Act) ومن ضمن أنشطتها مراجعة حوافز توفير الأطباء في الأماكن التي تشكو النقص فيهم. والإشكالية أن نقص توفر الجراحين تابع لنقص توفر أطباء الرعاية الأولية الذين من مهامهم معاينة المرضى وإحالتهم للمختصين حال احتياجهم لذلك.

وراجع الباحثون وفق ما ذكروه، 30 ألف حالة التهاب الزائدة الدودية لدى من غادروا مستشفيات ولاية كارولينا الشمالية في ما بين 2007 و2009، ولاحظوا أن ربعهم عانى من انفجار الزائدة تلك. وتشير إحصائيات وكالة بحوث وجودة الرعاية الصحية Agency for Healthcare Research and Quality بالولايات المتحدة، إلى حصول 95 ألف انفجار للزائدة الدودية في كل عام. والزيادة في التكلفة المادية لاستئصال الزائدة المنفجرة، بالمقارنة مع استئصال تلك التي لم تنفجر، تتراوح بين 10 آلاف و18 ألف دولار.

ثم قام الباحثون بمراجعة علاقة تدني عدد أطباء الجراحة في مناطق الولاية بارتفاع معدلات انفجار الزائدة الملتهبة. ولاحظوا أن توفر أقل من 3 جراحين لكل 100 ألف نسمة مرتبط بارتفاع بنسبة 5 في المائة لحالات انفجار الزائدة، وذلك بالمقارنة مع توفر 5 جراحين لنفس العدد من السكان. واستنتجوا أنه كلما تدنى عدد الجراحين أكثر ارتفعت النسبة، أي أن العلاقة طردية.

إلى هنا القصة مفهومة ومنطقية ومتوقعة لدى البعض. ولكن الإشكالية ليست في هذه النتائج، بل في ترجمة معانيها. ذلك أن ثمة عاملا مهما غفل الباحثون عنه، وهو المدة الزمنية بين بدء الشعور بألم البطن وبين ارتفاع احتمالات حصول الانفجار في الزائدة الدودية. والملاحظ طبيا أن إجراء العملية قبل مرور 20 ساعة على بدء الألم يقلل من احتمالات انفجارها بالمقارنة مع ما لو أجريت العملية بعد 40 ساعة. ولذا لم يستطع الباحثون تفسير لماذا تبلغ نسبة الانفجار 25 في المائة في المناطق التي تشكو من نقص حاد في أطباء الجراحة بينما النسبة هي 24 في المائة في المناطق التي لا يوجد نقص فيها لأولئك الأطباء الجراحين! وهو ما دفع الدكتور إدوارد ليفينغستون، غير المشارك في الدراسة، إلى القول بأنه فرق ضئيل. وهو في الحقيقة كذلك، لأننا لو استرسلنا بالتفكير المنطقي لتصورنا أن حالات انفجار الزائدة ستكون أعلى بكثير في المناطق الريفية التي تشكو من تدني عدد أطباء الجراحة مقارنة بالمناطق «الغنية» بهم، ولكن الواقع غير ذلك عند النظر بالعموم إلى الأمر برمته.

والمنطقي، كما قال الدكتور ليفينغستون، هو النظر إلى العلاقة بين زيادة تأخير وصول المريض إلى الطبيب الجراح في المناطق المختلفة وبين معدلات انفجار الزائدة الدودية، وليس عدد الجراحين. لاعتبارات من أهمها أهمية عامل الوقت، وأن الجراح وحده لا يفعل كل العمل بل إنه يعمل ضمن فريق مكون من أطباء آخرين وممرضات وغيرها من اللوازم اللوجيستية. وتبسيط طريقة التخطيط لبناء نظام تقديم الرعاية الطبية بناء على افتراضات مسبقة ليس هو الطريق الأفضل لوضع الاستراتيجيات والحلول، بل طريق التحليل الواقعي المبني على البراهين العلمية لأفضل وسائل تقديم الرعاية الصحية في المناطق المختلفة. إن حلول كثير من المشكلات في تيسير تقديم الرعاية الطبية مرتبط بعامل النقل للمريض وتوفير وسائل أنجع للاستفادة الأمثل من الموارد البشرية وغير البشرية. ولذا قال الدكتور ليفينغستون: «هذه توضح مشكلة الدراسات من هذه النوعية، حيث يتم استنتاج محصلات مبنية على افتراضات مسبقة حول ما يحصل دون معرفة ما هو حاصل حقيقة على مستوى المريض نفسه».

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]