الأمن الثقافي

TT

كنت أحسب، لسنوات خلت، أن الثقافة والأمن يقفان على طرفي نقيض، وظل الشأن عندي كذلك حتى السنوات القليلة الماضية، بل ربما السنوات الثلاث فحسب، أي منذ أحداث «الربيع العربي» من جهة أولى، وارتفاع وتيرة العولمة الهمجية من جهة ثانية.

كنت أحسب أن الثقافة لا تجعل من «الأمن» هماً أول لها إلا في الأنظمة الشمولية التي ترى في كل ما يحيد قيد أنملة عن الخط الآيديولوجي الذي قررت اتباعه تفسخا وميوعة، ثم إنها كانت تنسب ذلك كله إلى «الغزو الثقافي» بحسبانه شكلا من أشكال التربص بالبلد السعيد، وصورة من صور «المؤامرة»، أو قل إن تلك الأنظمة قد كانت تسخّر كل ما تمتلكه من «الأجهزة الآيديولوجية للدولة» من أجل رصد ومراقبة كل أشكال «الغزو الثقافي»، وتسعى، بكل سبيل، إلى رعاية «الأمن الثقافي»، الضامن الآيديولوجي الأكيد لسيطرة النظام الشمولي وإحكام قبضته على العقول والنفوس، ولذلك كان نعت الأمن الثقافي نعتا سيئ السمعة.

أما الاعتقاد الذي أخذ اليوم يترسخ لديّ فهو ذاك الذي يقضي بأن هذه التصورات جميعها تستوجب المراجعة وتستدعي إعمال سلاح النقد العقلي. الرأي عندي أن الحال اليوم، حال الثقافة وحديثها في العالم العربي، يستوجبان وقفة نراجع فيها معنى الأمن عامة والأمن الثقافي خاصة. لا بد إذن من المراجعة وإعمال لسلاح النقد، فإن ذلك مما تقتضيه سُنة الحياة والانخراط الإيجابي فيها، وهو ما نرى أننا في عالمنا العربي أحوج ما نكون إليه في المرحلة التي نحن بصدد اجتيازها.

حديث الثقافة والشأن الثقافي في العالم العربي اليوم يقتضي منا تدقيقا في القول نقرر بموجبه أننا لسنا نقصد بالثقافة ما كان مصدره الكتابة والعلم، أو لنقل مع علماء الأنثربولوجيا إننا لا نقصد به ما كان ثقافة عالمة فحسب، بل نحن نقصد الثقافة في دلالتها الواسعة التي تفيد ما كان مدونا بالكتابة وما لم يكن كذلك، الشفوي والمكتوب، وما كان ماديا ملموسا (مثل الرسم والنحت والمعمار وأعمال الصناعات اليدوية المتنوعة) أو كان غير مادي (شأن الحكايات والأساطير الشعبية وما في هذا المعنى). كل هذا يعد من صميم ثقافات الشعوب، وليس الشأن في فنون الطبخ والحياكة وترتيب الغرف والمنازل والحقول بأقل أهمية من ذلك.

يميز كلود ليفي ستروس - الفيلسوف الفرنسي والعالم الإثنولوجي الشهير - بين معطيين اثنين: الأول هو الطبيعة، والثاني هو الثقافة. وكل ما كان أعلى من الطبيعة ومجاوزا لها فهو ثقافة. وتأكيدا وتوضيحا لنظريته بكيفية أخرى يقرر أن كل شعوب المعمور، أيا كانت حال البساطة والحال الأولية التي تكون عليها، فإن لها بالضرورة ثقافة معلومة.

يقتضي منا استكمال الفهم التنويه بأمرين اثنين: أولهما أن المجتمع البشري، من حيث هو اجتماع لمشارب بشرية شتى ينتظمها حد أدنى ضروري من الانسجام والتآلف وانتظام لمصالح مشتركة، يعني اجتماع وانتظام ثقافات متنوعة في صعيد واحد يكون فيه التمييز ضرورة بين ما يمكن اعتباره حدا ثقافيا أدنى مشتركا بين المنتسبين إلى تلك الثقافات المتمايزة (لغات، لهجات، مجموعات بشرية مختلفة...) وبين ما كان مرتبطا بالثقافات الفرعية أو الخاصة بكل مجموعة بشرية على حدة (جهات، أقاليم جغرافية، أقوام تنتمي إلى البلد الواحد). وثاني الأمرين هو أن الدولة، بحسبانها التعبير السياسي عن اجتماع مجتمعات وشعوب في صعيد واحد، والانتماء إلى رقعة جغرافية معلومة، والانتساب إليها، وبالتالي حمل جنسية قانونية واحدة، تجعل الدولة بالضرورة أمام وجوب تأمين مجموعة من الحقوق لأبناء البلد الواحد أو الدولة الواحدة.

وغني عن البيان أن الحفاظ على الخصوصيات الثقافية التي تميز كل مجموعة إثنية داخل البلد الواحد يدخل في عداد المسؤوليات الأولى للدولة. من ذلك مثلا أنه ليس يحق للدولة أن تجعل المؤسسات الثقافية في البلد وكذا وسائل التواصل المختلفة وما تمتلكه الدولة من محطات الإذاعة والتلفزة - في متناول فئة أو مجموعة دون أخرى. في هذا المعنى الأخير نجدنا أمام الدلالة الأولى لما يصح نعته بتأمين الثقافة للجميع أو تحقيق «الأمن الثقافي» للمواطنين في الدولة الواحدة مع اختلاف لغاتهم ولهجاتهم وتنوع خصوصياتهم الثقافية المميزة، مما سنرجع إليه بعد قليل.

يصح القول إذن إننا أمام فهم للأمن يختلف باختلاف الموضوع، موضوع الأمن. الأمن العسكري، والأمن الغذائي، والأمن المائي، والأمن الثقافي. مفاهيم تختلف باختلاف ما يكون الأمر متعلقا به في المعنى المراد بالأمن. في هذه الأنواع كلها ما يرجع إلى مسؤولية الدولة، وهي واضحة مباشرة، وما يرجع إلى المجتمع وتنظيماته ولربما كانت أقل وضوحا، أو لنقل إنها تستوجب جهدا غير قليل من التربية والإعداد. في الحالين معا يتعلق الأمر بالحرص على الحفاظ على العام المشترك ثقافيا، وهذا من جهة أولى، وبالخصوصيات الثقافية التي تخص كل فئة أو مجموعة، من جهة ثانية، وهذا يدخل في باب الحرية ومراعاتها والضن بها، واعتبارها صنو الحياة، ومعادلا لها؛ فهو مما لا ينبغي التساهل فيه؛ إذ ليس للتساهل سوى معنى واحد هو الموت والفناء.

ومما ليس يخفى كذلك أن للمشترك الثقافي تجليات شتى متنوعة نذكر منها - على سبيل الاستئناس - المعمار وفنون البناء. لذلك فنحن نجد أن لدى العديد من الدول الغيورة على الثقافي المشترك فيها حرصا أكيدا على حضور الطابع الثقافي المميز، ولعلي أذكر في هذا الصدد نموذجا يستحق التنويه بالفعل، وهو نموذج إسبانيا. متى كنت تتنقل في المدن والقرى الأندلسية، التي توجد على الشاطئ خاصة، وتكون مقصدا للسياحة الدولية في فصل الصيف (كما هو الشأن في ماربيلا وطوري مولينوس وفوينخيرولا وغيرها من القرى والمدن السياحية عامة) فأنت تجد حضورا للثقافة الأندلسية في المعمار وفي الزخرفة وفي تأثيث البيوت والفنادق - تفرض وجودها على أحدث أشكال الهندسة ومختلف أنواع العمارات والأبراج. هنالك يقظة وتنبه لغزو الثقافة الأجنبية، وهنالك حرص على تأكيد الحضور الثقافي الذي يشي بحياة الثقافة الإسبانية وحيويتها واعتبارها تراثا حيا لا ينبغي التساهل فيه.

نحن في غنى عن القول إن في المثال الإسباني نموذجا يحق لنا أن نقتدي به في بلداننا العربية، ولعلي أغتنم الفرصة لأقول إن الحكومات الإسبانية لا تني عن تقديم التشجيع لأصحاب المشاريع العمرانية، كما أنها تجعل من اعتماد نسبة مئوية من التراث الإسباني في البناء شرطا أساسيا، وخاصة في مناطق وأحياء معينة من المدن والقرى، ولا غرو أن في ذلك نمطا قويا من أنماط مقاومة العولمة المتوحشة في مظهر قوي من مظاهر الثقافي المشترك عند شعب من الشعوب.

وأما ما يستوجبه حديث الأمن الثقافي في بلدان «الربيع العربي» فقول آخر لا يتسع لنا اليوم الخوض فيه.