الربيع الفارسي

TT

يبدو أن المفتاح الذي اختاره حسن روحاني رمزا لحملته الانتخابية قد نجح في حل قفل الشعب الذي صوت بكثافة على مرشح الإصلاحيين. وبقي الآن أن نعرف هل هذا المفتاح صالح لحل صندوق المؤسسة الدينية، التي وضعت البلاد تحت عباءتها وسمحت للديمقراطية أن تشتغل داخل حدود هذه العباءة لا خارجها. صاحب المفتاح قال مباشرة بعد فوزه: «إنه انتصار للحكمة، للعقل والاعتدال». لا داعي للمزيد، الكلمات الثلاث تلخص الوضع جيدا وأضدادها تشخيص سليم لأمراض الدولة الإيرانية.

صعود المرشح الإصلاحي حسن روحاني إلى منصب الرئيس في إيران من الدور الأول للانتخابات فاجأ الكثير من الدوائر الغربية وحتى أقطاب المؤسسة الدينية الإيرانية الذين راهنوا على التحكم في العملية الانتخابية من خلال طرح نموذجين من المرشحين المحافظين. الأول مرتبط بالمشروع النووي الإيراني الذي يعد مفخرة الأمة الفارسية، وهو مشروع قديم من أيام الشاه وليس وليد حكم الملالي الذين جاءوا إلى الحكم سنة 1979 كما يظن الكثيرون. إنه سعيد جليلي كبير المفاوضين في الملف النووي. أما المرشح المحافظ الثاني فهو عمدة بلدية طهران محمد باقر قاليباف، وهو نموذج المرشح القريب من هموم الناس والذي يستطيع أن يجلب أصوات الفقراء والناخبين الذين يصوتون على مرشح الخدمات، مثلما حصل مع أحمدي نجاد الذي كان عمدة لطهران قبل أن يصير رئيسا للبلاد خلال ولايتين انتخابيتين كانتا كارثة حقيقية على إيران.

لكن المفاجأة حصلت من ثلاثة أوجه على الأقل في هذه الانتخابات. أولا، نسبة المشاركة الكبيرة التي عرفتها الانتخابات الرئاسية 72 في المائة، وهي نسبة لم يكن الملالي الذين يحكمون إيران يتوقعونها، خصوصا بعد إجهاض الثورة الخضراء، ووضع كروبي وموسوي رمزي هذه الثورة رهن الإقامة الإجبارية، وحصول تلاعبات كبيرة في انتخابات 2009 وفي مقدمتها انحياز المرشد الأعلى للدولة أية الله خامنئي لأحمدي لنجاد ضد خصومه، ولهذا اعتقد الجميع أن الطبقة الوسطى في إيران ستهجر صناديق الاقتراع، لأنها لا تنتج تغييرات حقيقية في جوهر اختيارات الدولة وقراراتها الاستراتيجية. لكن حصل العكس وتوجه الناخب الإيراني للتصويت على المرشح الإصلاحي، ليس فقط أملا في التغيير، بل عقابا للمؤسسة الدينية الإيرانية المحافظة التي وضعت أحمدي نجاد في السلطة لمدة ثماني سنوات انتقاما من الشباب والنساء الذين خرجوا في مسيرات حاشدة لدعم رموز الثورة الخضراء.

المفاجأة الثانية التي وقعت في الانتخابات الأخيرة هي انسحاب المرشح الثاني للإصلاحيين محمد رضا عارف من سباق الرئاسة بطلب من الرئيس الأسبق محمد خاتمي، حتى لا تتشتت أصوات الإصلاحيين في انتخابات شديدة التقاطب، وهو ما يكشف عن نضج كبير وسط الإصلاحيين الذين تجاوزوا خلافاتهم الكثيرة ووقفوا صفا شبه موحد خلف روحاني، وهو الأمر الذي سيكون له ما بعده في الانتخابات البرلمانية المقبلة. المفاجأة الثالثة التي حصلت في هذه الانتخابات هي حصول المرشح الإصلاحي حسن روحاني على أكثر من نصف الأصوات في الدور الأول من دون الحاجة إلى الذهاب إلى دور ثانٍ للانتخابات، وهو ما يكشف عن اختيار واضح للإيرانيين للذهاب نحو أجندة إصلاحية حقيقية تتجاوز تركة نجاد السلبية على البلاد وعلى المنطقة برمتها.

النساء والشباب في المدن الكبرى هم في العادة قاعدة الإصلاحيين الانتخابية في إيران، في حين أن تجار البازار وجمهور المؤسسة الدينية وسكان البوادي هم القاعدة الانتخابية للمحافظين بكل تياراتهم. عندما تنزل نسبة المشاركة يفوز المحافظون، والعكس صحيح. وهذا ما يفسر جزءا من نتائج انتخابات إيران اليوم.

في كلا المعسكرين الإصلاحي والمحافظ هناك راديكاليون ومعتدلون. في المحافظين هناك من يمثل الخط الديني الأصولي المتشدد الذي يناهض الحريات والديمقراطية والتعايش مع الغرب ويدعو إلى إقامة هلال شيعي ينتصر للمذهب الاثني عشري ويعمد إلى تصدير الثورة إلى خارج إيران، وسيلته الأقليات الشيعية في المنطقة وسياسة مناهضة إسرائيل وأميركا وحمل لواء الدفاع عن المستضعفين. وفي وسط الإصلاحيين تيار علماني متشدد يدعو إلى طرد الدين من السياسة والمجتمع والعودة إلى الأصول الفارسية ما قبل دخول الإسلام إلى إيران. وما بين الراديكاليين هنا وهناك، هناك ألوان قزح. مشكلة الأغلبية المعتدلة هي عندما تسود الفوضى والمزايدات السياسية والتوتر مع الخارج تسرق الأقليات الراديكالية المجتمع ويصبح رهينة بين يديها. وهذا ما يفسر تصعيد الخطاب من قبل أحمدي نجاد والمحافظين ضد أميركا، وتسييس الملف النووي الإيراني، بحيث يصير نقطة توتر دائم، حتى تبقى البلاد في حالة حرب وتبقى التعبئة الآيديولوجية وسيلة للتحكم في المجتمع ومطالبته الديمقراطية، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضد الشيطان الأكبر وعملائه في المنطقة!

أمام الرئيس روحاني مطالب كثيرة وتحديات كبيرة؛ أولها تخفيف التوتر مع الغرب وأميركا ودول المنطقة، وثانيها إطلاق الحريات واحترام حقوق الإنسان وتطبيق القانون في دولة يملك فيها الملالي الكثير من أدوات التحكم من المال إلى الإعلام إلى تنظيم الحرس الثوري الذي يدار من قبل المؤسسة الدينية خارج إطارات الدولة. النساء والشباب يراهنون على إحياء العهد الخاتمي الذي أفشله آية الله خامنئي بأساليب عدة، والرجوع إلى حوار الحضارات في الخارج واحترام المواطنين واختياراتهم في الداخل.

إيران مثل سيارة لتعلم السياقة، بها فقيه دائم، صاحب السلطة الفعلية في الأمور الاستراتيجية، وفيها رئيس ينتخب كل أربع سنوات، يعطيه الدستور إدارة الحكومة، لكن إذا تدخل الفقيه تعطلت كل أجهزة القيادة أمام الرئيس.

متى يرفع الفقيه يده عن مقود السيارة؟ فقط عندما يشعر بالخطر على المؤسسة الدينية. لهذا يقول الخبراء في الشأن الإيراني: لولا إرادة الولي الفقيه في ترك المنافسة مفتوحة بين المرشحين للتنفيس عن الغضب المجتمعي في الشارع لما تمكن روحاني من الترشح أصلا للانتخابات، كما حصل مع رفسنجاني وآخرين، فالديمقراطية الإيرانية مسيجة بأسوار المؤسسات الدينية.

روحاني يعرف أنه يحتاج إلى التوافق مع الولي الفقيه إذا أراد أن ينجز شيئا على الأرض. إدارة السلطة في إيران مثل رقصة التانغو تحتاج إلى شخصين ولا تنفع معها يد واحدة. الرئيس والمرشد شركاء في السلطة ولو بحصص غير متكافئة، لكن الرئيس ورغم أنه أمام حواجز كثيرة فإن بين يديه أوراقا يمكن أن يلعب بها. وأولها تقديم استقالته في حالة عجزه عن تطبيق برنامجه الانتخابي والرجوع إلى الشعب.

لكن مع ذلك فالمعركة ليست محسومة سلفا. روحاني يأتي إلى السلطة والبلاد في حالة حصار خانق. البطالة في أوجها، الريال الإيراني في أدنى مستوياته، وأميركا وإسرائيل تدقان طبول الحرب كل يوم عند رأس إيران، ليس فقط بسبب المشروع النووي الإيراني ولكن كذلك بسبب دعم طهران للأسد واستعمال حزب الله كمخلب شيعي في العالم العربي، زيادة على اللعب الإيراني في العراق سياسيا ومذهبيا بطريقة تزرع الألغام في المنطقة وأخطرها الانزلاق إلى حروب مذهبية وطائفية سترجع المنطقة قرونا إلى الخلف.

الناخب الإيراني يعرف أن روحاني رغم أنه محسوب على الإصلاحيين فإنه ابن النظام وصديق لخامنئي واشتغل تحت إمرته طويلا، لكن روحاني تقدم ببرنامج اقتصادي وسياسي ودبلوماسي واقعي ويتناقض في العمق مع مخططات المحافظين، فهو يدعو إلى إطلاق الحريات واحترام دولة القانون وحرية الصحافة والإفراج عن المعتقلين السياسيين، ودبلوماسيا يدعو إلى الحوار مع أميركا والمصالحة مع المحيط العربي والدفاع بليونة عن المشروع النووي الإيراني، والابتعاد عن العنتريات التي كان أحمدي نجاد يستعملها مع العالم، وأورثت كوارث لطهران.

72 في المائة من الإيرانيين الذين ذهبوا إلى الانتخابات لم يصوتوا على رئيس جديد فقط، بل صوتوا على انطلاق ربيع فارسي جديد بعد قمع الثورة الخضراء التي سبقت الثورات العربية بسنتين. هناك خيط رابط بين الربيع العربي والصيف الفارسي هذا العام، ومفتاح روحاني شاهد إثبات على ذلك.

* ناشر ورئيس تحرير

جريدة «أخبار اليوم» المغربية