الدستور التونسي: ضمان الشيء ونقيضه!

TT

على امتداد الأشهر الأخيرة، عبرت شخصيات أكاديمية قانونية تونسية عدّة عن مزالق خطيرة تشوب مسودة ما سمي الدستور الصغير الذي عكف على كتابته نواب المجلس الوطني التأسيسي منذ انتخابه في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 إلى اليوم. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن الأمر تجاوز التعبير عن المزالق والتنبيه للثغرات القانونية إلى إطلاق صيحات فزع حقيقية، يبدو أن التجاوب معها داخل المجلس الوطني التأسيسي كان شحيحا، وربما يكون ذلك بقصد.

وبذلك يكون دستور تونس ما بعد الثورة محفوفا بالانتقادات. ومن ثمة، يفتقر إلى موقف حوله يقوم على الإجماع، باعتبار أن الدستور من المفروض أن يكون لكل التونسيين وخارج منطق حسابات توزيع الحكم والتوازنات السياسية الظرفية العابرة. والمعلوم أن الأصل في الأشياء أن الدستور لا يعبر عما هو سياسي ظرفي بقدر ما هو انعكاس لتوجهات عامة رئيسة تضمن الحقوق والحريات والديمقراطية للجميع، وفي كل وقت مع ترجمته لمدى تطور فكرة الحرية ومكانة الفرد في ذلك المجتمع. فكيف تلتصق بدستور تونس ما بعد الثورة انتقادات لم تُوجه إلى دستور 1959 نفسه؟

لا شك في أن كتابة أي دستور ترافقها خلافات ونقاشات أحيانا حادة، ولكن ذلك إنما يكشف عن ثراء في الرؤى والتصورات، خصوصا عندما يكون موضوع الخلاف صريحا وواضحا في مضمونه، تماما كما حصل (مثلا) في دستور 1959 عندما وقع خلاف حول توصيف تونس في البند الأول من الدستور على أنها دولة دينها الإسلام، في حين أن الشق الذي يمثله الشيخ النيفر آنذاك كان مع اعتماد توصيف «تونس دولة إسلامية». هذا الخلاف اللغوي الفكري الآيديولوجي حسمه الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة لصالحه ولصالح طبيعة مشروعه التحديثي، وهو خلاف كما هو واضح، يشمل تصور علاقة الدولة بالدين، إضافة إلى كونه صراعاً آيديولوجياً قد دار خارج بنود الدستور، وليس في عقر بنوده وفصوله، والفرق كبير وكبير جدا!

أما اليوم، فإن الانتقاد الأكبر الموجه ضد الدستور الجديد ذو طابع علمي قانوني صرف. ذلك أن المؤاخذات تصب بشكل أساسي في كيفية كتابة الدستور وغياب الشروط العلمية للكتابة القانونية فيه؛ فالمعروف أن الكتابة القانونية علم من العلوم القانونية واختصاص لا يتسنى التمكن منه إلا لنخبة رجال القانون وخبرائه، إذ إن الكتابة القانونية تقوم على الدقة المتناهية وعلى الكفاءة في إضفاء فلسفة قانونية تضمن للقوانين وللفصول ولأي نوع من الكتابة القانونية انسجامها داخل منطق قانوني منظم، وهو ما يوفر للقوانين والدساتير، وغيرها، القوة والصلابة.

إذن الانتقاد الأكثر إساءة للدستور الذي أكمل المجلس الوطني التونسي كتابته ومراجعته في الأيام الأخيرة يتمثل في ضعفه قانونيا. ومثل هذا الانتقاد الخطير في رسالته ودلالاتها يعد في الحقيقة من أخطر تداعيات تبني فكرة إجراء انتخابات لتكوين مجلس وطني تأسيسي يكتب أعضاؤه المنتخبون دستورا جديدا للبلاد يليق بشعب قام بثورة فاجأت العالم. ذلك أن الانخراط ضمن هذا المنطق جعل الدستور في أيادي نواب الأغلبية منهم تفتقر إلى الثقافة والتكوين القانونيين.

هكذا نفهم لماذا تم وصف دستور تونس بالضعف من حيث الشروط العلمية للكتابة القانونية في بلد يعج بالكفاءات القانونية وعريق في مجال التدريس الأكاديمي للقانون والحقوق. كما نفهم أيضا أسباب ترسخ صورة سلبية عن أداء نواب المجلس في تونس وكثرة الانتقادات ضدهم، التي تصل أحيانا إلى التهكم والتجريح في بعض الأعضاء، في حين أن تونس كان يمكنها تجنب كل هذا الجدل والتوتر والمال والوقت وتكليف لجنة من خبراء قانونيين، ثم يُعرض الدستور على الاستفتاء، ولكننا الآن قد تجاوزنا مرحلة الانتقال الديمقراطي إلى ما بعده.

هناك عامل آخر أيضا ساهم في حصول نوع من التناقض والتشظي داخل بعض بنود الدستور وفصوله، وهو عامل يتصل بظاهرة هيمنة الآيديولوجيا في عملية صياغة الدستور. ومنعت هذه الهيمنة الآيديولوجية من كتابة دستور متماسك ومنسجم في بنوده، إذ إن الآيديولوجيا بما تعنيه من تعصب لفكرة ما، هي منتجة للأخطاء، ناهيك عندما تسعى الآيديولوجيا المهيمنة إلى مجاملة الآيديولوجيا المهيمن عليها فتكون النتيجة دستورا مرقعا كُتب بذهنية تقبل الترقيع وتمارسه في مجال ديدنه المنطق والدقة والانسجام الفكري الفلسفي للقوانين المكتوبة.

لقد مست ظاهرة الترقيع هذه بعض ما جاء في المبادئ العامة للدستور وفصل الحقوق والحريات، وشملت بشكل واسع ما يتعلق بالمسألة الدينية ومسألة المدنية وعلاقة الدولة بهما.

وبيت القصيد أن المواطن التونسي في صورة الاتفاق على اعتماد الصياغة الأخيرة للدستور سيجد نفسه في ظل دستور يضمن الشيء ونقيضه!