أردوغان وروحاني

TT

في فترة زمنية واحدة، تلقى العالم رسالتين؛ الأولى من إسلام تركيا «أردوغان»، والثانية من إسلام إيران «روحاني».

تقول الأولى: إن الاعتدال والمرونة اللذين تميز بهما الحكم التركي، تراجعا إلى الوراء خطوة واحدة، ولكنها جوهرية ومؤثرة.

والثانية تقول: إن التشدد الإيراني التقليدي، تراجع خطوات، ولكن على صعيد الدلالات الأولية، ومبكرا القول على صعيد تغير نهج وسياسات الحكم في إيران.

* أردوغان

* يسرت لي الظروف، لقاء مطولا مع السيد رجب طيب أردوغان على مائدة عشاء في منزله بأنقرة، بصحبة الرئيس محمود عباس في أول سنة لولايته خليفة لياسر عرفات.

منذ ذلك العشاء الهادئ الذي ساده جو حميمي، أعجبت بذلك الشاب العصري والسلس والذكي، وتمنيت لو أن الله يمن على الإسلام السياسي العربي بمثله. ولقد انتميت إلى جيش المعجبين الدائمين بالقائد الشاب، وكنت كلما زرت تركيا أتقصى نجاحاته، وأتعرف على درجة الاستجابات الشعبية لظاهرته الساطعة، وفي أكثر من مناسبة كتبت عن الرجل، وراهنت بقوة على أن عهده سيكون في مصلحة توازن جديد، تكون فيه تركيا الكبيرة والمؤثرة إلى جانب قضيتنا الفلسطينية، مع تمتعها بمساحة كافية تتيح لها فرصة التدخل كوسيط فعال في أمر السلام الشرق أوسطي.

لم أنتبه إلى أن الرجل الذي تعاظم شأنه وتميزت صورته عن سائر معاصريه من الزعماء، سوف يدخل إلى دائرة التأثر بذاته وإنجازاته، بحيث يمتلئ ثقة واعتدادا، على نحو تضيق فيه تلك المساحة الضرورية وربما الحاسمة في أمر مصائر الزعماء وهي «التواضع» وتحاشي الإشارة إلى الإنجازات كبطاقة دخول إلى الخلود القيادي، وديمومة الانجذاب الشعبي للرجل وظاهرته كيفما اتجه.

ومع أنني من الذين يباهون بإنجازات أردوغان، وأسوقها كمثل معاكس يدل على فشل الإسلام السياسي في بلاد العرب، فإنني صدمت وشعرت بالخوف على الرجل، حين سمعت تصريحاته حول الاحتجاجات في ميدان تقسيم، عشية زيارته إلى الجزائر. كانت في واقع الأمر شبيهة بتصريحات السادات، حين وصف الاحتجاجات في بلاده ذات يوم «بانتفاضة الحرامية» فظل هذا المصطلح البغيض يطارد الرجل طيلة حياته، ولا أحب التذكير هنا بتصريحات القذافي.. فشتان ما بين زعيم نجح كثيرا وهو أردوغان، وزعيم ليس في حياته الطويلة إلا الفشل وهو القذافي.

ثم.. لم يعجبني بعد عودته من الجزائر، تلك المناورة الصاخبة التي أداها أردوغان بـ«العتاد البشري» وسرده الإنجازات الهائلة لعهده في كل المجالات، ذلك أن توظيف الإنجازات في السعي للنجاح في انتخابات ديمقراطية وحرة ونزيهة أمر ضروري ومشروع، إلا أن توظيفها لعبور أزمة وبصورة استعراضية أمر آخر.

إن ظاهرة أردوغان منيت بانتكاسة يتعين على الرجل وعيها جيدا، إذ ربما لا يزال لديه متسع من الوقت للتعلم منها، كي يستعيد نضارته وقوة تأثيره، بعيدا عن مثلبة الفرز السطحي بين أغلبية شعبية كبرى وأقلية مغلوبة، إن مثل هذا الفرز لا بد أن يدفع ثمنه غاليا، من يستخدم الأكثرية في غير وجهتها الصحيحة، ولقد يتهم من يفعل ذلك بالمغالاة في الذهاب إلى ديكتاتورية اسمها «ديكتاتورية الإنجاز».

* روحاني

* احتفى العالم وبصورة مبالغ فيها، بنجاح السيد حسن روحاني من الجولة الأولى في انتخابات الرئاسة الإيرانية، وبدا لي أن هذا الاحتفاء الواسع سببه تراجع نفوذ التشدد الإيراني على الصعيد الشعبي، وسقوط أشباه أحمدي نجاد، مما أعطى رسالة أولية للعالم مفادها أن الشعب الإيراني ضاق ذرعا بالأثمان الباهظة التي أرغمه على دفعها ذلك التحالف المتين بين قوى التشدد في إيران، والتي يتربع على عرشها المرشد، ويخدمه جيش من النافذين في معظم مفاصل الدولة ومؤسساتها.

غير أن روحاني في إيران، يشبه إلى حد ما أحمد شفيق في مصر، حيث إن الرجل انبثق من قلب النظام الإيراني، وكان في جميع مراحله رجلا أساسيا في بنيته ومطابخ قراراته، إلا أن ذلك وفي حالة إيران يسجل له لا عليه. فالرجل وإن كان يفكر ويتصرف بصورة أفضل من باقي زملائه في مؤسسات النظام، حظي بتحالف مع إصلاحيين من طراز رفسنجاني وخاتمي، وفر له كماً كبيراً من الأصوات.. إلا أنه سوف يواجه حتما، تيارا معاكسا يرغمه على إنفاق جل وقته وجهده، في تجاوز العوائق الموضوعية، التي تحول دون بلورة نهج إصلاحي فعال ينسجم مع رغبة الشعب الإيراني، ويجسد نتائج صندوق الاقتراع بسياسة شرعية راسخة ومنتجة في اتجاه جديد.

إن أنوارا كاشفة مسلطة منذ اللحظة على سلوك الرجل وقدراته، نصبت في جميع مراكز صنع القرار في العالم، لمراقبة كل حركة وسكنة، وكل كلمة تصدر عن الزعيم الجديد في إيران، وذلك ليعرف كل ذي صلة إيجابية أو سلبية بهذه الدولة وسياساتها، ما إذا كان الاعتدال الذي تقدم في إيران خطوة إلى الإمام سينجح كبداية لتغيير ولو محدود وبطيء؟ أم أن تيار التشدد الذي جرف من قبل زعماء كبارا في المسيرة الإيرانية.. سيجرف الرئيس الجديد؟

سؤال كهذا لا يجاب عنه يقينيا بالتحليل والاستنتاج، فلا بد من وقت اختبار عملي قد لا يطول كي تعرف الحقيقة.