هل هو (وميض أمل) في العلاقة السعودية ـ الإيرانية؟

TT

من البدهي القول: إن الشيخ حسن روحاني كان يعلم قبل أن يترشح للرئاسة الإيرانية، وقبل أن يفوز بها من الجولة الأولى.. من البدهي أن نعرف أن الرجل كان على علم بالسياسة الخارجية لبلاده - إيجابياتها وسلبياتها - فرجل كان أمينا عاما للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني لسنوات كثيرة لا بد أن يعلم تفاصيل الملف الكامل للسياسة الخارجية الإيرانية، ذلك أن هذه السياسة هي من صميم الأمن الوطني لكل دولة في عالمنا هذا.. يترتب على ذلك أن روحاني كان على علم بـ(حركة المد والجزر) في علاقة بلاده بدول الخليج العربي، وبالمملكة العربية السعودية على وجه التحديد.. ونحسب أنه بمقتضى هذا العلم سارع إلى أن يقول إن من أولوياته في المستقبل تعزيز العلاقة مع السعودية بوجه خاص.

وقبل التوغل في شأن العلاقات الثنائية، لعله من المناسب كتابة سطور عن الرئيس الإيراني المنتخب حسن روحاني؛ فلم يكد إعلان فوزه ينتشر حتى سارعت فضائيات وصحف وسارع محللون كثر إلى وصفه بأنه (إصلاحي) و(معتدل)... إلخ. لقد احتشى الكلام عن روحاني بالجهالة، والأماني المجنحة، أي الجهالة بسيرته الذاتية ودوره في الثورة والدولة الإيرانيتين (مثلا)؛ ليس يَتصور عاقل عليم أن رجلا تثق به الثورة والدولة إلى درجة أن يكون أمينا لأمنها الوطني، ليس يتصور عاقل عليم أن يكون هذا الرجل ممن تحوم حوله شبهة واحدة في إيمانه بولاية الفقيه، أو التفريط في الاستراتيجية الإيرانية الكبرى المتفق عليها، أو قلة الحماسة في (خدمة الدور الإيراني) إقليميا وعالميا.

ومع ذلك كله، نتمنى أن تكون إيران في عهده صديقة مخلصة للسعودية ابتغاء التعاون الوثيق بين البلدين على قضايا مشتركة، وهي كثيرة. فالدين والعقل يدعوان إلى (تكثير) الأصدقاء، وتقليل الأعداء: «ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم».. والمنطق العقلاني يثوي في هذا النص القرآني ذاته. فمن العقل - في دنيا الناس - (تكثير) الأصدقاء، وكسر العداوات.. ومن الحمق قلب المعادلة، ومباشرة الضد. فالحمقى - وحدهم - هم الذين يقللون الأصدقاء بطيش، ويكثرون الأعداء بغباء.

نقلنا قبل قليل أمنية روحاني ورغبته في تحسين العلاقة مع السعودية.. وهذه بادرة حسنة بلا شك، ولذا تلقتها السعودية بالترحيب والقبول، وهو قبول تبدى في البرقية التي بعثت بها القيادة السعودية مهنئة روحاني بالفوز في الانتخابات الرئاسية. فخلاصة تلك التهنئة هي أن السعودية مستعدة لدفع العلاقات بين البلدين إلى مستوى أمتن من التفاهم والتعاون والاحترام المتبادل، ولئن كان الظرف الزمني والمناسبة السياسية قضيا بهذا الترحيب، فإن إقامة علاقات طيبة ومثمرة مع العالم العربي الإسلامي، بل العالم كله مؤصّلة في نص دستوري، إذ نص النظام الأساسي السعودي للحكم في مادته (25) على أن «تحرص الدولة على تحقيق آمال الأمة العربية والإسلامية في التضامن وتوحيد الكلمة، وعلى تقوية علاقاتها بالدول الصديقة».

لقد مر على الثورة الإيرانية نحو 35 عاما، وهي مدة كافية لأن تتحول إيران من (الثورة) إلى (الدولة)، وهو تحول تتطلبه طبيعة الدولة وحساباتها المبنية على المصالح، وعلى إقامة علاقات دولية ذات قوانين وتقاليد لا تحتمل (الثورة الدائمة).

لقد اضطر لينين إلى صياغة فلسفة عملية جديدة تضبط العلاقة بين (الدولة) و(الثورة)، وترجيح كفة الأولى على الثانية في القرار، والأداء، والعلاقات. فعل لينين ذلك عندما أدرك أن (أحلام الثورة) تنزل بالدولة أفدح الأضرار والمخاطر.

وفي إيران، حاول عقلاء إيرانيون وُلدوا من رحم الثورة وآمنوا بولاية الفقيه أن يفعلوا شيئا يوازن بين مطالب الثورة وضرورات الدولة، بهدف وقاية الدولة الإيرانية من (رومانسية) الثورة. فهل نجح هؤلاء فيما أرادوا؟ لقد تراوحت المحاولة بين النجاح والفشل من حيث الموضوع، وبين الاستمرار والانقطاع من حيث الزمن. ذلك أن للآيديولوجيا (أي آيديولوجيا) ضغطا وصخبا يرهبان العقلاء، أحيانا؛ فمنهم من يصمت تحت ضغط الرعب من الاتهام بالعمالة والخيانة.. ومنهم من يعتزل السياسة إلى حين، أو بإطلاق.

وها قد وصل إلى رئاسة الجمهورية الإيرانية رجل يوصف بالواقعية والاعتدال، فهل تتحول صفاته هذه إلى سلوك سياسي عملي، ولو في السياسة الخارجية، سلوك سياسي يعيد الحسابات بمنطق (مصلحة الدولة والتزاماتها ومسؤولياتها) وهو حساب يقول: إن الدولة الإيرانية في الآونة الأخيرة قد خسرت كثيرا بسبب جملة من المواقف حضرت فيها الآيديولوجيا بكثافة، وغاب أو ذبل فيها الحساب العقلاني المصلحي الجاف أو المجرد.. وتتأكد ضرورة الحسابات بالنظر إلى رؤية يجمع عليها الساسة الإيرانيون، تقريبا، وهي أن لإيران دورا إقليميا بحكم الجغرافيا والتاريخ والإمكانات والكثافة البشرية.. ولكن هذا الدور الإيراني لا يتبلور من خلال النزق والتضخم الآيديولوجي، وإنما يكون بالعقلانية والاحترام وحسن الجوار، وسمو اللغة، ويكون بإنشاء شبكة من العلاقات التجارية والاقتصادية يحرص الجميع على سلامتها من التدهور والفشل والكساد.

ويكون الدور، من جانب آخر، بـ(الوعي العميق) بمخططات الأعداء، وبالحرص البالغ على حماية الذات من أن تكون أداة ومدخلا لتحقيق أهداف أعداء الأمة في التمزيق والتفتيت.

يقول القادة الإيرانيون (دوما): إن أعداء الأمة الإسلامية يسعون باستمرار لضرب وحدتها، وهو قول صحيح، بيد أنه قول ينشئ مسؤولية عملية عظمى على هذا الذي تنبه لكيد الأعداء فحذر منه!!

والحق نقول: إننا لا نتصور علاقات طيبة بناءة في هذا الإقليم ما لم تكن السعودية وإيران هما نواة هذه العلاقة وقاعدتها الصلبة ومناخها الصحي.

ولعلنا نختم المقال برؤية موضوعية لتصحيح مسار العلاقة بين إيران وجيرانها الخليجيين.. ومن ملامح هذه الرؤية:

1 - الوعي بحقائق الجغرافيا والتاريخ، فجيران إيران لم يختاروا جيرتها، والعكس صحيح، وإذا كان ليس معقولا ولا مطلوبا ولا ممكنا هجرة أحد الطرفين أو كليهما من المنطقة، فإن البديل للهجرة المستحيلة هو التعايش العقلاني الحضاري المحترم، ونبذ كل ما يتعارض مع هذا التعايش من تشنجات وحماقات.

2 - الأقليات المذهبية لدى الطرفين هم مواطنون لهم كامل المواطنة أخذا للحقوق، وأداء للواجبات.

3 - بناء على (المواطنة الكاملة) لا ينبغي التشكيك في أقلية وطنية إلا إذا ثبت بدليل قضائي قاطع تلوث هذا الولاء بما يشينه. وهذا ينطبق على الأكثريات أيضا من الناحية القانونية.

4 - هذه الثقة بالمواطنة تترتب عليها مسؤوليات جسيمة، على رأسها أن لا تسمح أقلية ما لنفسها بتدخل دولة أخرى في شأنها، وإن كانت تلك الدولة تدين بمذهبها.

5 - كف الألسنة والأقلام عن السب المتبادل، ثم نقول بصراحة: إذا كانت العلاقة السوية البناءة بين السعودية وإيران لصالح البلدين، فإنها مطلوبة (كذلك) لصالح الأمة كلها، فالمنطقة تتقد بجمرات الصراع المذهبي، وليس هناك من هو أقدر على إطفاء هذه الجمرات من السعودية وإيران عبر تعاون صدوق وسمح وطويل النفس.