خارج الإطار.. خارج القفص

TT

تجد في المكتبة دائما كتبا من نوع «كيف تكتب الرواية»، أو «كيف تكتب المقال»، أو «كيف تكتب الرسائل». هذا يعني أن الكاتب سوف يكون واحدا. والأسلوب سوف يكون واحدا. وسوف تكون هناك مقدمة ونهاية ومتن. هل هذا جيد؟ هذا ممتاز.. لا بد أن تكون هناك قواعد وأصول لكل شيء. مثل هذه القواعد تنظِّم أعمال المؤلفين. ولكن هل من الضروري أن تضبط أفكار العباقرة ومخيلاتهم؟

قرأ الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ الروائي الفرنسي بلزاك. وقال اتركوه يحلق. اتركوه يغرِّد. دعوه يهمر علينا تلك المعارف التي يختزنها في مراقبته بتجارب وطباع وحياة الآخرين. ليس من شيء لا يعرفه. القضايا والمعارك ومضاربات السوق المالية والسياسة وخدعات المسرح. إنه يتسكع ويخزِّن. لا يترك شيئا من دون ملاحظة حتى أسماء الشوارع وتاريخ بناء البيوت. إنه يعرف ثمن العربة التي يجرها حصان واحد ويعرف حياة البائسين والمترفين. ومن ثم يحوِّل كل شيء إلى شلال ينهمر دفعة واحدة.

أجمل ما في المقارنة التي وضعتها عبقرية زفايغ مع عبقرية بلزاك أنه شبَّه طريقة بلزاك في العمل بطريقة نابليون: «كان يبعث شخصياته ويختارها من جميع الأسر والأقاليم مثلما كان نابليون يفعل مع جنوده. وكان يقسمها إلى ألوية ويجعل أحدهم فارسا والآخر مدفعيا ويوزع البارود على مخازن الذخيرة في بنادقهم».

يخيل إليّ أن جميع عباقرة الرواية أطلقوا أفكارهم من دون الالتزام بالقاعدة المدرسية. منهم من حولها إلى مناجاة وتأمل ورأي ومعركة في خِضم ما، ومنهم من أدخل جزءا من حياته في كل عمل، ومنهم من وزع حياته على مجموعة روايات مختلفة تحت عناوين متغيرة. لكن العبقريات ظلت بلا إطار أو قفص. هكذا حدث في باب النقد والسيرة، وأبرز مثال على ذلك زفايغ نفسه، الذي قدم لنا أدباء روسيا وألمانيا وكأنه يكتب ملحمة شعرية لا ينقصها سوى القوافي. فقد حاكى سير الروائيين وحياتهم كما حاكوا هم أشخاصهم وأبطالهم.

أذكر أن زميلا لنا عين رئيس تحرير مجلة واسعة الانتشار. وبعد التعيين التقى صاحب المجلة بالراحل سليم اللوزي الذي أسس أنجح مجلة أسبوعية في لبنان. كان الناشر مزهوا باكتساب الزميل، فسأل اللوزي رأيه في الاختيار، أجابه: هذا وُلد ليغرد وأنت وضعته في قفص جميل. لن يمضي وقت قبل أن يفتح الباب ليغرد من جديد.