حين يكون الجهاد في خدمة النظام!

TT

تسير ثورة السوريين ضد نظامهم نحو إتمام عامين ونصف من عمرها بمزيد من الغموض الذين يلف مصير سوريا والسوريين. ففي اللوحة العامة للصراع بين النظام والثورة، ثمة توازن للقوة أو للضعف بحيث إن أحدا منهما، ليس بمقدوره التفوق على الآخر، وليس بقدرة طرف أن يهزم الطرف الخصم، وأن الصراع بينهما في حركة مد وجزر، يتقدم أحدهما في منطقة، ويتراجع آخر في غيرها، ثم يحدث عكس ذلك في منطقتين أخريين في وقت لاحق. غير أن ذلك التوازن مهما كانت تفاصيله، لا يعني، أن طرفي الصراع في سوريا متساويان. فالجوهري أن النظام بما كرسه من سياسات وممارسات في قتل الشعب وتدمير البلد، يسير إلى هزيمة مادية وسياسية بعد هزيمته الأخلاقية، وأن الثورة بما فيها من مطالب للحرية ورفض للظلم والقهر والاستعباد، تذهب إلى نصر، رغم كل الترديات الأخلاقية التي باتت تحيط بواقع الصراع في سوريا ولا سيما لجهة ما يرتكبه النظام القاتل.

ووصول الصراع في سوريا إلى وضعه الراهن، إنما هو ثمرة لتحولات جوهرية في ثورة السوريين وعلاقاتها في المستويات كافة. ففي طبيعة العلاقات الداخلية بين الثورة والنظام برز التفوق السياسي والأخلاقي للثورة على النظام منذ اللحظات الأولى، التي كرست جبهتين واضحتين؛ جبهة تطالب عبر نضال سلمي بالحرية وبالحق في اختيار النظام والقادة والمستقبل، وجبهة يطلق القائمون فيها وعليها النار على الحشود السلمية من المتظاهرين والمعتصمين وغيرهم.

ورغم تفوق القوة وجبروتها في أدوات القتل والإكراه التي يملكها النظام، فإن الثورة استمرت في تقدمها وتعزيز صفوفها باتجاه تحقيق أهدافها، مما دفع بالنظام إلى تغييرات في سياسته وتكتيكاته، كان الأبرز فيها خطين أساسيين؛ الخط الأول السعي نحو نقل الصراع في سوريا من طابعه السياسي بين النظام والشعب إلى صراع طائفي ديني بين أطراف في النسيج الوطني الجامع للسوريين. والخط الثاني كان السعي إلى إخراج الصراع من طابعه الداخلي وتحويله إلى صراع له امتدادات خارجية، بمعنى إعطاء الصراع بعدا إقليميا ودوليا، عبر إدخال أطراف خارجية في صراع له طبيعة داخلية.

ورغم أن ثمة انفصالا قائما بين الخطين في البعدين الداخلي والخارجي، فقد استطاع النظام اللعب على المشترك فيهما، فأخذ الطابع الطائفي الديني المحلي إلى امتداده الخارجي، فلجأ إلى تحالف عميق مع كتلة إقليمية أساسها إيران وحزب الله وميليشيات مسلحة في العراق وأدخلها إلى عمق الصراع المسلح وإعطائه طابع الصراع السني - الشيعي، ثم عزز الدور والوجود الروسي - الصيني في تحالفه الدولي، ولكل من الطرفين تخوفه من الإسلام عبر التركيز على الطابع الإسلامي - السني للثورة في سوريا، وجمع إلى ما سبق المستوى العالي من العداء العالمي للتطرف الإسلامي، ليصل في دعايته وادعاءات حلفائه إلى التركيز على الثورة السورية باعتبارها «ثورة إسلامية سنية متطرفة»، تستجر العداء لها من أطراف خارج تحالفات النظام.

ولئن كانت محصلة مساعي النظام في جهده عبر الخطين كانت محدودة، ولا سيما في الخط الأول، فإنها كانت كافية للحفاظ على وجوده من جهة وعلى استمرار الصراع في سوريا وتصاعده بهدف إحداث تحولات في الوضع القائم، تسمح للنظام باستعادة سيطرته على الوضع، وإعادة الحال إلى ما كان عليه قبل انطلاق الثورة في مارس (آذار) 2011. وهذا النجاح الجزئي، ما كان ممكنا لولا موجة دعوات الجهاد، التي بدأت في العام الأول من الثورة، وما زالت تتواصل حتى الآن.

لقد بدأت الدعوات من جانب جماعات متطرفة من أخوات تنظيم القاعدة بهدف تصعيد الصراع، وجلبت معها جهاديين في جماعات متطرفة، وآخرين أسسوا لجماعات تطرف في سوريا، ثم امتدت الدعوات إلى هيئات إسلامية من مناهج أخرى بهدف مساندة السوريين في الصراع فجلب متطوعين، ليصيروا متطرفين محتملين، فيما كانت أغلب دعوات الجهاد داخل الثورة السورية هدفها الوقوف في وجه النظام وإسقاطه، لكنها هي الأخرى لم تكن بعيدة عن توفير بيئة تدعم وتساعد في التطرف.

واستجرت دعوات الجهاد السابقة وبصورة موازية دعوات جهاد من الطرف الآخر المعادي للثورة في سوريا، لم يكن هدفها تعزيز سبل وقوى الدفاع عن النظام فقط، وإنما تصعيد الصراع وديمومته وخلق امتدادات له، وهي أهداف مقاربة لمحتوى أهداف دعوات الجهاد لدى الأطراف الأخرى. وكان بين هذه الدعوات ما صدر عن إفتاء النظام وأبواقه الدينية من أجل الدفاع عن النظام، ثم توالى صدور فتاوى إيرانية وأخرى في أوساط حزب الله وبعض المرجعيات «الشيعية»، التي وإن لم يكن الدفاع عن النظام هدفها المباشر، فقد كانت محصلتها في ذلك السياق سواء كان هدفها حماية «السكان الشيعة» أو حماية «المراقد الشيعية» في سوريا، وكلاهما عاش مئات السنيين دون أن يحيطه أو يتهدده الخطر فيها.

لقد عززت دعوات الجهاد في جانب منها الجهود إلى عسكرة الثورة والتسلح في سوريا، ثم جلبت أوساطا من المتطرفين إليها، وكانت عاملا مهما في استيعاب وتنظيم أخوات لـ«القاعدة»، وتجاوزت ما تقدم في خدمة التطرف «السني» إلى خدمة التطرف «الشيعي»، وتتجاوز في الحالتين خدمة النظام مباشرة أو بصورة غير مباشرة إلى تصعيد حمى الصراع الديني والطائفي في المنطقة وفي العالم، لكنها في الأهم من ذلك كله، لم تنفع في الدفاع عن السوريين، ولا استطاعت أن تحقق انتصارا لثورتهم، التي تحتاج بالفعل إلى دعوات وجهود مختلفة وكثيرة من أجل الانتصار على النظام القاتل والمدمر.