«تقسيم» يقود التحرير

TT

موجة ميدان التحرير في 2011 قضت على النموذج العسكري في مصر، واليوم تدخل منطقتنا موجة ميدان تقسيم في تركيا التي ستقضي على النموذج الإسلامي في صورته الأبهى التي تطمح الحركات الإسلامية المختلفة لتقليدها. في أول يوم احتل فيه المعترضون على سياسات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الساحة، كتبت على «تويتر» أن نهاية المشروع الإسلامي ترسم اليوم في ميدان تقسيم.

في حقبة مواجهة ديكتاتورية العسكر في عام 2011 كان ميدان التحرير يقود مرحلة إنهاء حكم العسكر من مصر إلى اليمن وسوريا، وأصبح التحرير هو أيقونة المرحلة. أصبح ميدان التحرير رمزا حتى لأحداث سبقته، كالقضاء على نظام بن علي في تونس. التحرير أصبح كالعلامة التجارية لرمزية القضاء على حقبة العسكر في الشرق الأوسط. أما تقسيم فهو علامة تجارية جديدة لحقبة جديدة وموجة جديدة، وهي موجة رسم ملامح نهاية الحكم الإسلامي كما يتصوره الداعون إليه من مالي إلى الصومال إلى أفغانستان إلى السودان إلى نظام «الإخوان» في مصر.

أهمية ما يحدث في ميدان تقسيم، هو أنه الميدان الذي يهز صورة النموذج الذي يدعو إليه التيار الإسلامي. تقسيم لا يهز المشروع الإسلامي في صوره السيئة في الصومال أو أفغانستان أو السودان، ميدان تقسيم يضرب في مقتل النموذج الإسلامي السياسي في أبهى صوره في تركيا آخر معاقل الخلافة.

اليوم تقسيم هو الذي يقود المرحلة وليس التحرير. حركة تمرد المصرية يوم 30 يونيو (حزيران) ستجني ثمار ما حدث ويحدث في تقسيم، ومحمد مرسي و«إخوان مصر» اليوم أصبحوا ضحايا ما يحدث في تقسيم، وهم أيضا ضحايا رجب طيب أردوغان ونظامه الذي كانوا ينظرون إليه على أنه النموذج الذي يسعون إلى تطبيقه في مصر.

هزيمة نموذج الإسلام السياسي للحكم في صورته الناصعة في تركيا تعني بالضرورة وبالتبعية نهاية نموذج الإسلام السياسي في صوره السيئة في البلدان المختلفة في العالم الإسلامي.

من تقسيم وموجة تقسيم نفهم بشكل مختلف ما حدث في ميدان رابعة العدوية في مدينة نصر في القاهرة، حيث تظاهر آلاف الإسلاميين مساندة للرئيس الجالس على عرش مصر: الرئيس محمد مرسي. نادرا ما يحدث في العالم أن ينبري المتظاهرون تأييدا لرئيس في سدة الحكم، المظاهرات في الغالب تكون لمعارضة تحتج على نظام الحكم وسياساته، وهذا ليس في مصر فقط، وإنما في العالم كله. الشارع للمعارضة وليس للحكم. أما إذا نزل أهل الحكم إلى الشارع فهم طوعا يتخلون عن مكانتهم كحكام، ويتحولون من تلقاء أنفسهم إلى معارضة.

في هذا السياق تكون مظاهرات الإسلاميين هي التي بدأت في نزع الشرعية عن الرئيس وعن النظام. أعرف أن هذه النقطة تحتاج إلى شرح وتوضيح، ولكن الفكرة هي أن خروج الإسلاميين إلى الشارع في ضربة استباقية للمظاهرات التي دعت إليها حركة تمرد، هو في حد ذاته دليل ضعف لا دليل قوة. فالناس تخشى من في الحكم، لأن معه الشرعية، ولكن يبدو وبعد ضربة تقسيم في تركيا، تمكن الارتباك من كل الحركات الإسلامية في المنطقة، إذا عطس نظام أردوغان في تركيا، أصيبت بقية الأنظمة والحركات الإسلامية التي أنتجتها، أصيبت هذه الحركات، بما فيها «إخوان مصر»، بالأنفلونزا.

إذن ما كان في ميدان رابعة العدوية من مظاهرات، ليس استعراضا للقوة، كما يصورها بعض الليبراليين، وإنما هو إعلان ضعف ووهن من قبل جماعة الإخوان المسلمين، والحركات التي تدور في فلكها أو خرجت من عباءة «الإخوان» ومنها الجماعة الإسلامية. نظام «الإخوان» يبدو مرتعدا مما سيحدث من مظاهرات مضادة تبدو قوية في يوم 30 يونيو. ومن شاهد حشد المذيع المصري توفيق عكاشة أمام وزارة الدفاع، يدرك أن حشد «تمرد» سيكون فيضانا من البشر، كل المؤشرات تقول إنه سيفوق حشد الإسلاميين في رابعة العدوية. وليس بمستغرب أن يختار تيار الإسلام السياسي، ميدان رابعة العدوية، ومن قبل اختار الساحة أمام جامعة القاهرة؛ وذلك لأن التحرير يفضح الأعداد. فميدان التحرير يبتلع جماهير ميدان رابعة العدوية وجامعة القاهرة مجتمعين. لذا يبدو أن الإسلاميين ولقلة العدد، أرادوا مليونية تلفزيونية من خلال زوم الكاميرا وليس من خلال الأعداد على الأرض.

مرة أخرى ما حدث في رابعة العدوية، هو مؤشر ضعف ومحاولة للتغطية على قلة ممن يتبعون التيار الإسلامي في بلد قوامه تسعون مليون نسمة.

في ميدان تقسيم قبل يومين طالب المتظاهرون باستقالة رجب طيب أردوغان وانتخابات جديدة في تركيا، مطلب تقسيم باستقالة رجب طيب أردوغان، جاء قبل مطالبة محمد البرادعي الرئيس محمد مرسي بالاستقالة، وهي أول مطالبة علنية من قبل البرادعي للرئيس بالتنحي.

في حالة ميدان تقسيم نحن نشهد الانهيار الثاني للنظام العثماني. في بداية القرن العشرين انهارت الخلافة العثمانية ومن يومها والمنطقة غارقة في دماء الإمبراطورية المذبحة. كل حروب المنطقة بما فيها احتلال إسرائيل لفلسطين جاءت نتيجة لهذا النزف الشديد الذي عانت منه الإمبراطورية العثمانية حتى لفظت أنفاسها الأخيرة. انهيار نظام أردوغان هو انهيار الصورة العصرية للخلافة التي يطمح «الإخوان المسلمون» لإقامتها من مصر. مصر الفقيرة لا تقيم خلافة. وليس لديها القدرة أن تفرض نموذجا. ومن هنا يكون تأثير تركيا على مصر أكبر من تأثير مصر على تركيا. قد تنجح «تمرد» في إطاحة حكم «الإخوان»، ولكن تقسيم سيقوض المشروع الإسلامي برمته ومن المنبع وفي أفضل نماذجه.

تقسيم هو نوع من المجاز أو الصورة كما البوسفور الذي يقسم إسطنبول إلى جزء أوروبي وآخر آسيوي، وعلى تركيا أن تقرر إلى أي عالم تنتمي. إما إلى أوروبا بما فيها من وضوح في قيم حقوق الإنسان وقضايا البيئة، أو إلى آسيا وإساءة معاملة الأطفال في المصانع.

ما يجعل كل ما حدث في تقسيم أساسيا، هو ذلك التأييد الأوروبي الذي يرى في نموذج أردوغان الذي يريد أن يشيد محلات تجارية في المتنفس الأخضر الوحيد تقريبا في إسطنبول نوعا من البربرية المعاصرة. فما يراه إسلاميو الشرق من إبهار في نموذج أردوغان، يراه الغرب نوعا من الرأسمالية البدائية التي لا تتورع في عمل كل شيء وأي شيء من أجل زيادة النمو. نموذج أردوغان كما يبدو من أوروبا هو نموذج الصين وعمالة الأطفال ومحاصرة المتظاهرين بالدبابات في ميدان تيانمين. تقسيم تركيا هو تيانمين الصين. أوروبا والعالم الحر يرى أردوغان بوجهه العثماني العنيف لا بدينه الإسلامي الحنيف.

تعاطف الغرب مع المتظاهرين الداعمين لحقوق الإنسان والحفاظ على البيئة ضد النموذج الأردوغاني، الذي يقطع الشجر من أجل النمو الاقتصادي، يجعل مرسي ونظامه في مأزق. فإذا كان النموذج الأعلى الذي يتطلع إليه «إخوان مصر» قد سقط أخلاقيا في نظر الغرب، فلا بد أن نظام مرسي الأدنى تنظيميا والأقل اعترافا بحقوق الإنسان ساقط لا محالة.

«تمرد» تجني ثمار انتصارات تقسيم، وسوف يسقط مرسي بكل تأكيد يوم يسقط أردوغان، إن لم يكن قبله. وهذا هو تقسيم المنطقة الأهم.