تطوير وتحديث.. ولكن لن نخرج من عباءتنا

TT

تعد المرحلة الديمقراطية التي تعيشها سلطنة عمان من المراحل المهمة في أجندة التنمية الشاملة التي بدأت أولى خطواتها قبل أربعة عقود من الزمن، وهذه المرحلة تكتسب مع كل فترة تمر من عمرها منجزا مهما في مختلف المجالات، سواء في الممارسة الواعية لها عبر مجلس عمان الممثل في غرفتين هما مجلس الدولة «المعين»، ومجلس الشورى «المنتخب»، وعبر هذين المسارين تذهب المسيرة البرلمانية في السلطنة نحو التطور والارتقاء، حيث مثل إنشاء المجلس الاستشاري للدولة أولها تلاه إنشاء مجلس الشورى، ثم إنشاء مجلس الدولة؛ وصولا إلى مجلس عمان، وهي مسيرة لا تزال تكسب رهان الاستحقاق في كل مرحلة، أو عبر مسار حقوق الإنسان الموظفة من خلال اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان التي تشق طريقها هي الأخرى نحو التطبيق والمتابعة، والوقوف على قضايا الواقع، بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني التي تأخذ طريقها نحو تأصيل الممارسة الديمقراطية في عصرها الحديث، وإن كانت ممارسة منسلة من تاريخ السلطنة وقيمها السامية.

وقد شكل نهج السلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان في مجال الشورى، خصوصية عمانية بحتة تتجذر قيمها الأصيلة منذ عهد بعيد، حيث تشهد بين كل فترة وأخرى من عمر التنمية صياغة مفردات حديثة، لتتواكب وتطلعات التنمية ومتطلباتها في السلطنة، يتضح ذلك في خطوات ثابتة؛ تنظيما في محطاتها، وتفعيلا في قراراتها، ومستوى رفيعا في أعضائها، ويأتي آخرها منح حق الانتخاب لجميع المواطنين رجالا ونساء، ممن تتوافر فيهم الشروط القانونية، لرفع مفهوم الممارسة الديمقراطية من التعاطي المباشر غير المنظم الممارس في «السبلة» إلى التنظيم الممنهج، وذلك لإيجاد علاقة تكاملية ونوعية، تتناسب ومستوى التطور الذي تعيشه السلطنة، بين الحكومة كمؤسسات منظمة تخضع لقوانين عدة، وبين القطاع الأهلي الذي ينظر إلى دوره في المشاركة التنموية نظرة مهمة، لليقين الموجود أن العلاقة بين الطرفين علاقة تكاملية ومصيرية في الوقت نفسه.

وقد هيئ للتجربة الانتخابية أن توظف خبرتها وتصل إلى مستوى مرضٍ من التفاعل، وذلك عبر صناديق الاقتراع لانتخاب أعضاء مجلس الشورى، ولذا ينظر اليوم إلى مجلس الشورى على أنه أحد أهم الاستحقاقات التنموية، لكونه نبض الشارع، ومجسر العلاقة بين الحكومة والشعب، وهو فوق ذلك أيضا مؤسسة حقيقية لممارسة ديمقراطية في عصرها الراهن في السلطنة، تعكس وعي شعب تنبض الديمقراطية بين جوانحه.

وقد عززت الجولات التي يقوم بها السلطان قابوس بن سعيد من المسعى الذي يحرص على تثبيت مبادئ الحكم العصري في السلطنة، وفي تفعيل الممارسة الديمقراطية التي ينادي بها منذ اليوم الأول لتوليه مقاليد الحكم في السلطنة، وكان لهذه الجولات صدى خاص لدى الشعب العماني؛ نظرا لأجندات العمل التي ترافقها، والخطط والمشاريع التي تنبثق من خلالها، وكان للحوار المباشر بين القائد وشعبه الذي يتم في هذه الجولات؛ أثره الكبير في ترسخ القناعات، وفي تجمع الرؤى لضرورات تكريس الحياة الديمقراطية في كل أوجه الحياة في السلطنة، وليس فقط في العلاقة القائمة بين المؤسسة الرسمية وبين القطاع الأهلي، وهذا ما عزز من الدور الذي يضطلع به مجلس عمان.

يعول اليوم كثيرا على الدور الذي يلعبه مجلس عمان بشقيه: الدولة والشورى، حيث يمثل محور العملية التنموية نظرا للصلاحيات الممنوحة لكلا المجلسين وفق ما تنص عليه المراسيم السلطانية السامية في شأن كل منهما. يلعبان هذا الدور من خلال مجموعة من الإجراءات المتعلقة بتفعيل الصورة الديمقراطية، مثل علنية الجلسات، وتعديل مشروعات القوانين النافذة، واقتراح مشروعات جديدة، ووضع التوصيات على مشروعات خطط التنمية والميزانية السنوية للدولة المحالة من مجلس الوزراء، وكذلك وضع المرئيات على مشروعات الاتفاقيات الاقتصادية والاجتماعية التي تعتزم الحكومة إبرامها أو الانضمام إليها، والاطلاع على تقرير جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، واستجواب وزراء الخدمات - من قبل مجلس الشورى - في الأمور المتعلقة بتجاوز صلاحياتهم المخالفة للقانون، بالإضافة إلى موافاة مجلس الشورى بتقارير سنوية من قبل وزراء الخدمات عن مراحل تنفيذ المشاريع الخاصة بوزاراتهم.

مع الإقرار بأن إنشاء مجلس عمان اليوم لم يأت لتكملة عدد المؤسسات في السلطنة، وإنما جاء لتحقيق أهداف بعيدة، وغايات وطنية مجيدة، ولتحقيق حاجات ملحة، وهو بحد ذاته نصاب قانوني في مدى مساهمة المواطنين في عمليات التنمية، وهي مساهمة مطلوبة، وواجبة، بل حتمية يمليها الواقع، بعد أن قطعت التنمية مسافة زمنية كبيرة، وأنجزت كما مقدرا توثقه المساحة الجغرافية الممتدة من أقصى عمان إلى أقصاها، استطاعت السلطنة أن تكسب رهان الود مع المجتمع الدولي، وأن تستحوذ على القلوب العطشى للمادة الإنسانية، وذلك بعدما تعززت العلاقة مع مختلف الدول، ومع مختلف المؤسسات المهتمة بالقضايا الإنسانية، وما يعزز هذا القول هو التقدير الدولي للسلطنة؛ حكومة وشعبا، وهذا ما تعكسه التقارير الدولية الإيجابية الأخيرة في مجال حقوق الإنسان في السلطنة.

ما يمكن أن نختتم به هذا الموضوع أن المسيرة الشورية بخصوصيتها العمانية ارتقت مرتقى كبيرا، وأخذت مكانتها التي تتسامى مع روح المجتمع، وما يتطلع إليه أفراده، ويشهد على ذلك مجموعة القيم والمبادئ التي تكتسبها الممارسة الديمقراطية في السلطنة من خلال التطوير والتحديث، من دون الخروج عن عباءتها العمانية الأصيلة، فهي تأخذ من الحديث ما يتوافق مع هذه الخصوصية، وتستلهم من المجد التاريخي ما يعزز منبتها الأصيل.