دمعة وابتسامة

TT

يسعى بعض القراء والأصحاب للالتقاء بي أملا في أن يروا وجه ذلك الكاتب الساخر والفكه، وينعموا بفكاهته وابتسامته. يفعلون ذلك، فإذا بهم يشعرون بخيبة وصدمة كبيرة؛ فليس على وجهه غير الحزن والاكتئاب، بل والغضب أحيانا. وعندما يُقدر لي أن أشارك في لقطة فوتوغرافية لجماعة، كثيرا ما يلكزني أحدهم، وينبهني: «اضحك يا أبو نايل.. شوية ابتسامة!».

الاكتئاب ظاهرة ملتصقة بالفكاهيين. وهم يتخذون الفكاهة حرفة لمجرد الهروب من حزنهم، ولي مما يجلب الحزن والكدر شيء كثير. أنا من عشاق كرة القدم، ويذهب معظم الناس لمباريات الكرة ليتمتعوا بها ويروا فريقهم المفضل يعود مكللا بالنصر. ولكنني قلما أحظى بذلك؛ فتعاطفي مع المسحوقين والمحرومين من البشر يجعلني دائما أشجع الفرق الضعيفة والفقيرة، أو ما يسميهم الإنجليز بـ«الكلاب الساقطة» (Under dogs). أصفق وأشجع وأهتف لها حتى يبح صوتي، ثم أراها تخسر اللعبة. فما الذي تنتظره من فريق «تعبان» مفلس غير الهزيمة النكراء؟ وهكذا أخرج من الملعب وأعود للبيت مكسور الخاطر مكدر المزاج.

وكذا نصيبي من الموائد المترفة؛ يذهب الناس للمطاعم الراقية لينعموا بأطايب الطعام ونفائس الطبخ الأرستقراطي. ولكن هذا لا يحدث لي؛ فما إن أجلس أمام المائدة، ويأتيني النادل بقائمة المأكولات حتى أدقق فيها مليا. وبغريزة الفضولية وحب الاطلاع الذي عانيت منه طوال حياتي، أبحث في القائمة عما لم أسمع به، ولا سمع به أي من أصحابي من أكلات، وأطلب من النادل أن يأتيني بها، لمجرد أن أطلع عليها وأذوقها. أتجاهل كل ما في القائمة من أكلات لذيذة شائعة يتفق الجميع على حسنها وروعتها. وبينما يتمتع أصحابي بمثل ذلك، أجد أمامي ذلك الطبق المجهول الذي تعافه حتى الكلاب والقطط. آكله على مضض، واحتراما لصاحب الدعوة الكريمة. أخرج من المطعم ألعن ذلك الطعام وذلك المطعم وأقضي بقية اليوم أعاني من مغص المعدة وسوء الهضم.

أمر بالتجربة نفسها حينما أقرأ في الصحف أو أشاهد شاشات التلفزيون. يمارس الناس المطالعة للاستئناس بها. ويتفرجون على التلفزيون ليضحكوا أو يطربوا أو يأنسوا بشيء. ليس لي أي نصيب من ذلك؛ فبحكم عملي صحافيا عليّ أن أتابع آخر ما يجري في دنيانا العربية، وهل فيها أي شيء يؤنس النفس أو يطيب الخاطر؟ أقضي المساء أتنقل من محطة لمحطة ولا أرى أو أسمع غير صراخ المنكوبين في حوادث انفجارات بغداد أو بلاد الشام. أبحث عن شيء من الغناء والطرب، فإذا بي أسمع هذه الأصوات الشاذة والأنغام النشاز والأغاني الفجة. أطفئ التلفزيون وأتحسر على «أيام زمان»، حين لم يكن لدينا أي تلفزيون في البيت.

استبشرنا وهللنا لانبثاق الربيع العربي، ورحت أسرع لغرفتي لأتابع آخر الأخبار، وأرى كل هؤلاء الشباب الحلوين يطوفون الشوارع وينادون: «ارحل!»، فرحل. وإذا بمن حلوا محل من رحلوا لم يزيدونا غير همّ على همّ، فلا تطلب يا سيدي القارئ زيارتي لتأخذ صورة معي ببسمة عريضة أو وجيزة.