التحية لك ولنحلاتك

TT

تعرفت على رجل من منطقة (جازان) بالسعودية، وعرض علي أن أشاركه في تربية النحل والمتاجرة بالعسل، حيث إنها مربحة جدا، والدليل أن له الآن أكثر من عشر سنوات وأرباحه بازدياد، وبحكم أنني بطبيعتي إنسان (شكاك)، فمديحه لمشروعه جعلني أتساءل بيني وبين نفسي: إذا كانت أرباحه تتزايد سنة بعد سنة، فأي (غباء) يدفعه لشريك يقاسمه أرباحه؟!

وأصبحت فريسة التناقض، بين نفس حذرة وخوافة، وبين نفس جشعة وطماعة، ولكي أقطع الشك باليقين قررت أن أزوره في موقع عمله بمزرعته، ووجدت عنده فعلا أعدادا كثيرة من المناحل، وعرفت منه أنه في الصيف يصعد بها إلى مرتفعات الجبال، وفي الشتاء يهبط بها إلى السهول حيث الجو الدافئ.

ولكي يغريني ذكر لي أن جميع أعداد النحل لديه كلها (وطنية)، وليس بها ولا نحلة (مصرية) واحدة، الواقع أنني ما إن سمعت منه ذلك حتى استأت قائلا له: أرجوك كلنا إخوة عرب لا فرق بيننا ولا بين نحلنا، فقال لي: إن لديك حساسية مفرطة وأنت فهمتني غلط، وأنا مثلك أقدر إخواني المصريين وأضعهم فوق رأسي، ولكن نوعية ذلك النحل المسمى (المصري) ما هو إلا شيطان طائر نشيط وقوي من دون أي عسل جيد يعطيه، ولا هم له إلا التسلط على النحلات الوطنيات الضعيفات فيفترسها افتراسا، لهذا منعت وزارة الزراعة استيراده، ونحن نكافحه بشتى السبل.

المهم أخذ يستعرض أمامي أصناف عسله المتعددة الألوان والنكهات، وأخذ (يزغطني) بملعقة بيده، وكلما شكرته مكتفيا زادني بأخرى إلى أن كاد العسل (يطلع من مناخيري)، وخشية على بطني أخذت أصده، غير أنه أخذ يضحك من خوفي قائلا: «العسل هو أنقى الأطعمة جميعا، وعندما ينضج بطريقة مناسبة، يصبح محتويا على درجة عالية من التركيز من أنواع السكر إلى حد أن الجراثيم لا يمكنها أن تعيش فيه أكثر من ساعة واحدة، أو ساعتين».

وقد عثر في قبر أحد ملوك مصر القدماء على عسل عمره 3300 سنة وقد ازداد كثافة وحلكة بفعل الزمن، ولكنه كان لا يزال نقيا، ولا يستطيع أي خبيث أن يفسد العسل دون أن يكتشف أمره، فإذا خفف بالماء فإنه يختمر، ولا يمكن تقليده.

ومضى يستعرض لي ثقافته (العسلية) قائلا: «لولا النحل لانقرض نحو عشرة آلاف صنف من الزهور، كما أن النحل لا يستطيع أن يعيش بلا زهور!».

وقد تحمل كل نحلة ما يعادل وزنها عشر مرات من الرحيق لتعود به إلى الخلية قبل حلول الظلام، وقد قدر أن نصف كيلوغرام من العسل يتطلب 37 ألف رحلة يقوم بها النحل من وإلى الزهور والأشجار.

وبعد أن تجولنا وتحدثنا ما لا يقل عن أربع ساعات، سحبني من يدي ودخل بي إلى منزله الكائن في نفس المزرعة، وفي مجلسه الأرضي مددت قدمي، وما هي إلا دقائق وإذا به يحضر لي القهوة، وما إن ارتشفت أول فنجال حتى قلت له: سبحان الله، هكذا هي الحياة: حالية أحيانا كعسل النحلة، ومُرَّة أحيانا كفنجال القهوة، ولكنني على أي حال أحبها بحلاوتها ومرارتها، مثلما يحب أي عاشق متيم معشوقته الرائعة بكل ما فيها.

ودعته على أمل اللقاء مرة أخرى، ولكن لم يكتب الله لي مشاركته.

ومن هنا أبعث له ولنحلاته تحياتي ودعواتي.

[email protected]