انتقائية «السيادة» و«الشرعية»

TT

لأسباب مفهومة تسابق الساسة اللبنانيون، بالأمس، على إعلان تأييدهم لخطوة الجيش اللبناني «الجراحية» في مدينة صيدا، عاصمة جنوب لبنان، التي استهدفت القضاء على ظاهرة الشيخ أحمد الأسير، إمام مسجد بلال بن رباح وأتباعه في ضاحية عبرا.

جاء التأييد شبه إجماعي في بلد ينقسم فيه القادة وأتباعهم ويختلفون على كل شيء تقريبا، غير أن أسباب التأييد كانت مختلفة بين فريق وآخر.

فثمة فريق يرى أن الجيش بات أحد قلة قليلة باقية من المؤسسات الحكومية العابرة للطوائف - ولو نظريا -، وبناء عليه من واجبات المؤمنين بـ«دولة المؤسسات» الرهان على نجاح الجيش في مواجهة سلاح فئوي غير شرعي.

وثمة فريق ثانٍ اعتبر أن ظاهرة الأسير إنما غُذيت ودُعمت لسحب بساط التأييد الشعبي في الشارع السني من تحت أقدام تيار «المستقبل»، ومن يمثل في الشارع السنّي المعتدل. ومن ثم، كان - عن قصد منه أو من دون قصد - يخدم مصلحة التيارات التي تخطط لـ«شيطنة» المسلمين السنة والتحريض عليهم ورميهم بتهم التعصّب والتكفير، تماما كما فعل ويفعل النظام السوري.. في خطابه مع المجتمع الدولي. ثم هناك فريق ثالث، طائفي في العمق، ومعادٍ صراحة لأي انتفاضة شعبية ضد واقع الهيمنة المفروض على لبنان دولة وشارعا منذ مايو (أيار) 2008. وهذا الفريق الطائفي يتجاوز فعليا حالة ذهابه أبعد في إذلال الشارع السنّي - ولا سيما بعد معركة القصير في سوريا - ليصطنع أكذوبة أنه يمثل كتلة منزهة عن التعصب الطائفي تقف «مع الشرعية والسيادة».. وتواجه كتلة طائفية تكفيرية «ضد الشرعية والسيادة». بل الانطلاق من هذا الزعم نحو اصطناع جيل جديد من «الواجهات» المسيحية المارونية، ستشكل معركة القضاء على الأسير - بعد حصار عرسال وغض النظر عن مشروع حزب الله وممارساته الداخلية والخارجية - شهادة تبعيتها لـ«الحزب» خلال اختبار المرشحين الموارنة «المؤهلين» لتولي منصب رئاسة الجمهورية في العام المقبل.

كثرة من اللبنانيين خلال السنوات القليلة الماضية كانوا يقولون إن وجود الشيخ أحمد الأسير وخطابه العالي النبرة أفضل سلاح سياسي لحزب الله.. يستثمره في شد عصب قاعدته الطائفية الشيعية ومساعدة النائب ميشال عون والبطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي في تخويف المسيحيين من «التطرّف التكفيري السنّي». وهذا يشبه - إلى حد بعيد - ارتياح إسرائيل الضمني لخطاب السيد حسن نصر الله الناري الذي تعلو نبرته كلما ابتعد عن الحدود مع فلسطين المحتلة، وأوغل في التورّط بتأجيج الاستقطاب الطائفي داخل لبنان، واليوم، على مستوى المنطقة العربية. ولنعد إلى مسألة تأييد الجيش..

الجيش اللبناني، مثله مثل كل الأجهزة الأمنية والمدنية والقضائية والإدارية التابعة للدولة اللبنانية، مؤسسة حكومية شرعية، واجبها أن تسمو فوق الحزبية والخلافات والتشنّجات الطائفية. ولكن هذا الدور يُمارَس، أولا، في حال وجود «دولة». وثانيا، عندما تكون المعايير المعتمَدة في تعيين القيادات العسكرية والأمنية والشخصيات القضائية والإدارية معايير الكفاءة والأهلية.. بمعزل عن التوافق السياسي المعلن والمستتر.

والقصد هنا أنه إذا كان حق الجيش، كمؤسسة، في التصدّي لكل الظواهر الخارجة عن الشرعية وسيادة الدولة حقا غير مشروط، فإن من حق المواطن اللبناني، في المقابل، طرح علامات استفهام حول الولاءات السياسية للقيادات العسكرية والأمنية.. ولا سيما، عندما تُعيَّن في مناصبها بموجب ترشيحات وتزكيات وصفقات سياسية معروفة جيدا للرأي العام. وبالتالي، على الحكم في لبنان، الذي تبنّى صباح أمس في بيان رسمي، بلا تحفّظ، إجراءات قيادة الجيش وطريقة تعاملها الحازمة والحاسمة مع ظاهرة الأسير، أن يسمح للبنانيين توقّع خطوتين مهمّتين للغاية منه خلال الساعات والأيام المقبلة:

الخطوة الأولى، طمأنة الشارع السنّي اللبناني إلى أنه غير مُستهدَف بما تراه قيادات سنيّة فاعلة سياسة كيل بمكيالين، وذلك عبر القبول بمطلب فتح تحقيق قضائي في ملابسات الحادث الإجرامي الذي استهدف حاجز الجيش.. وأشعل فتيل التفجير الأمني الخطير. وكان بعض العلماء المسلمين السنّة قد طالبوا بفتح التحقيق قبل اجتياح الجيش مقر الأسير وقتله عشرات من مناصريه.

والخطوة الثانية، الأشمل والأهمّ، هي ممارسة الدولة «السيادة» والدفاع عن «الشرعية» بصورة صحيحة وشاملة وكاملة، بما في ذلك إنهاء حالة «الدويلة ضمن الدولة» تحت شعار «الجيش والشعب والمقاومة» الذي جرى اختصاره أخيرا بـ«مقاومة».. كفّت عن مقاومة إسرائيل منذ 2006 وتفرّغت لإخضاع منتقديها وتخوين خصومها ومنع قيام الدولة وخوض حروب خارج الحدود، من دون أخذ رأي الشعب، ومن دون الاكتراث بالجيش.

لبنان بلد جميل والشعب اللبناني شعب متفائل محب للحياة ومقبل عليها، يحتفل بمناسبة وبلا مناسبة، صيفا وشتاء، ولكن من العبث أن يعيش هذا الشعب في حالة إنكار دائمة. قبل أيام أطلق وزير السياحة، المحسوب على «التيار العوني»، تصريحات مفرطة بتفاؤلها أثناء انطلاق «مهرجانات جونية السياحية» تحت الأسهم النارية المشعشعة.. يظن من لا يعيش في لبنان ويتحسس همومه أنها تقال من كوكب آخر.

ويوم أول من أمس بينما كان الجيش يقصف مقر الأسير في عبرا صدح نائب حليف لوزير السياحة قائلا إن «على الجيش أن لا يتوقّف عند منتصف الطريق (؟)».. أي طريق؟ وما هو منتصف طريق تثبيت «السيادة» و«الشرعية»؟

ثم يوم أمس أدلى وزير الداخلية، وهو رجل عسكري محترف ومحترم، تصريحا مجلوبا من مخازن «الطوباوية» النبيلة ينمّ عن أن أركان السلطة الرسمية ما زالوا يتعاملون مع مؤسسات الدولة، ومنها الجيش، وكأنها «ديكور».. ومع الشعب كله كأنه حضانة أطفال. هنا نحن أمام مشكلة إنكار حاد للواقع، وتجاهل متعمد للحقائق المرة. نحن إزاء دولة غائبة أو مغيّبة تتلهى بالقشور، وتتغاضى عن المعضلات البنيوية التي تمس جوهر وجود الوطن.

باختصار، يستحيل قيام الأوطان بوجود شتاء وصيف على سطح واحد.