رأسنا رئيسنا

TT

رأس الإنسان موطن حواسنا الخمس، وغوغل الذاكرة، وكومبيوتر التفكير لمن يفكر. ولا عجب أن نعتز به. فمن الرأس المدبر يأتي الرئيس. ومن علائم اعتزازنا به أن دأبنا جميعا على إجلاله بتكليله بالتيجان والعمائم والقلنسوات والخوذ. واشتققنا شتى التعابير منه. فأنت على رأسي، وما تهديني إياه أحطه على رأسي، ورأسي فداء لك. وذو الرئاستين من أجاد في قلمه وسيفه، ويقال أيضا لمن حصل على الحكم باسم الدين كـ«الإخوان المسلمين». وكأني بالمتنبي قد سبق في وصف الكثير من مسؤولينا بقوله:

إن حل فارقت الخزائن ماله

أو سار فارقت الجسوم الروسا

في أيامنا هذه يعبر المثقفون والشعراء عن علو منزلتهم بلبس القبعات الغربية وخاصة البيريه. ولكننا في أيام زمان كانوا يعبرون عن منزلتهم العلمية بالعمامة. جاءت امرأة أمية للشيخ عبد العزيز البشري برسالة من ابنها الجندي ليقرأها لها. حاول وحاول ولكنه عجز عن قراءة ما فيها من شخبطات. فاعتذر لها. فقالت له: «كل هالعمة الكبيرة على راسك ومش قادر تقرا سطرين كلام؟». فنزع العمة من رأسه ووضعها على رأسها ودفع إليها بالرسالة: «أهي! تفضلي اقريها!».

وكأني أجد في لباس الرأس تعبيرا بليغا عن هوياتنا القومية والطبقية. ففي مصر وبلاد الشام كان الطربوش لباس الوجهاء، والطاقية لباس الدهماء. في منطقة الخليج يلبس العرب، صغيرهم وكبيرهم الأشماغ والعقال. ولكنك حالما تدخل العراق ترى أمامك كرنفالا من ألبسة الرأس تعبر عما في ذلك البلد من فرقة وتفرق، هناك العمامة وهي أنواع، منها العمة والكشيدة والسيدية والآخندية. وللطاقية أيضا أنواع، منها العرقجين والجراوية والأشماغ. وللكرد والأيزيدية والصابئة عمائمهم الخاصة. البدو يستعملون العقال ويستعمل الأرمن والتركمان الكاسكيت والبرنيطة... إلخ.

ما إن جلس فيصل الأول على العرش حتى شهد هذا الكرنفال من الألوان والأشكال. لم يعرف كيف ينجز ما عجز عنه كل السلف في توحيد العراقيين، ففكر بتوحيد لباس الرؤوس. فتش وسأل حتى استقر على «السدارة» التي كانت معروفة في إيطاليا فأوصى بها شعارا للعراقيين. لم يستجب لطلبه غير القليل، واكتفى الباقون بتسميتها على اسمه «فيصلية». وواصلوا لبس الطرابيش والعمائم.

وكان من هؤلاء الأستاذ علي مظلوم، وكان هذا عالما في الرياضيات يتمتع بمكانة رائقة بين المثقفين. وشق على الملك أن يرى مثل هذا الرجل يستمر في لبس الطربوش العثماني. عبثا حاولوا إقناعه بترك الطربوش ولبس السدارة. سمع الأستاذ طرقا على الباب ففتحه فإذا بملك العراق هو الطارق. «تسمح لي أدخل وأنا ضيفك؟». رحب به وأجلسه في صدر الغرفة. «جئتك يا أستاذنا لأهديك هدية. أرجو أن تقبلها مني». أجابه فورا: «أقبلها وبس؟ أحطها على راسي!». ففتح الملك علبة وأخرج سدارة سوداء. ولم يتمالك علي مظلوم غير أن يحطها على رأسه ويلتزم بها. وكانت نتفة من حكميات الملك الراحل في تعامله مع المعارضين.