قبل أن تغيب

TT

خرج من أفريقيا المستقلة خلال نصف قرن، رجال مثل الإمبراطور جان بيدل بوكاسا (العريف السابق في الجيش الفرنسي) ورئيس الكونغو جوزيف موبوتو (المؤهل السابق في الجيش البلجيكي). الباقون جاءوا مع الاستقلال، وبقوا حتى الموت.

أراد بطل الحريات معمر القذافي تحرير القارة فأقام معسكرات تدريب لأبطالها: تشارلز تايلور من ليبيريا والعريف فوداي سنكوح من سيراليون وملازم (نسيت اسمه) من بوركينا فاسو. خاض تايلور (الآن أمام المحكمة الدولية) وسنكوح وهذا الملازم أفظع حروب الأرض. جنَّدوا الأطفال وخدَّروهم ومن لم يقبل قطعوا ذراعيه. عمَّت أفريقيا الحروب القاتلة والانقلابات والفساد من شرقها إلى غربها. فاقت فظاعات الاستقلال جميع فظاعات الاستعمار. تحارب الناس حول الأديان والأوثان والمناجم، وسرقت الميليشيات الجائعين والفقراء. هُتكت الأعراض بالاغتصاب ورمدت حقوق البشر بالحياة، وكان استعباد الأفريقي للأفريقي أسوأ من ظلم الرجل الأبيض. بعض أبرز أعضاء البرلمان في موريتانيا عبيد سابقون. ولا يزال نظام العبودية جاثما بكل مكارهه.. عيب أيها الأصدقاء. محزنة حكاية أفريقيا، أيام الاستعمار وبعده. خرافات وسحر وموت ومجاعات، وعدو التقدم والازدهار هو النظام الخالي من كل رحمة. في هذه الغابة من المناجل المتقاتلة وهذا المستنقع الرهيب من الفساد، قام عمود من الضوء اسمه نيلسون مانديلا. برفق أبعد الرجل الأبيض وقال له: لا تذهب الآن، ابق وعلم أولادنا. وفي هدوء ورفعة، فعل ما لم يفعله أي أفريقي أو عالم ثالثي، غادر مكتب الرئاسة إلى مزرعته البسيطة.

مانديلا هو الصفحة البيضاء الأكثر نصاعة في تاريخ أوروبا المعاصر. سجنه أعظم من جميع شعرائها وحريته أعظم من جميع حرياتها. ترك لشعبه بلادا تتقدم وتزدهر وتتطور فيما صدور الشعوب الأفريقية يجثم عليها الثقلاء وخلاة المشاعر والرؤية. إذا كان قول «صاحب أيادٍ بيضاء» ينطبق على أحد فعلى هذا الأسمر الأجعد الذي خرج من السجن باسما صافحا كأنه خارج من مهرجان.

كنا نعتقد أن تاريخ أفريقيا سوف ينتهي مع خروج مانديلا من السجن، فإذا به يبدأ هناك. السجين الذي بدا سجّانه أمامه في حجم ذبابة، ولما أطلقه بدا أمامه في حجم بعوضة. سوف يحزن عليك ذوو جميع الألوان الذين لم يعرفوا في حياتهم سوى لون العذاب وعبودية الهواء الطلق واستبداد الصدور الضيقة. وسوف يحزن عليك القانون. لقد جعلت قانون الغاب أجمل القوانين.