الظاهرة.. والدافع

TT

في مرحلة تمر فيها كل المؤسسات الرسمية في لبنان بحالة تعطيل أو تغييب لم تختبرهما منذ أيام الحرب الأهلية في سبعينات القرن الماضي، يبرز دور المؤسسة العسكرية كآخر عمود فقري متبقٍّ للدولة. ويضاعف من أهمية هذا الدور عاملان سياسيان:

- كون الجيش الدعامة الرئيسة للمؤسسة اللبنانية الوحيدة التي لا تزال تملك هامش تحرك (كي لا نقول استقلالية القرار) على الصعيد الوطني، أي مؤسسة رئاسة الجمهورية.

- كون البديل «الميداني» لتهميش الجيش تسليم «أمن» لبنان، كاملا، إلى حزب الله... ما يعني نهاية الدولة الديمقراطية التوافقية، إن لم يكن نهاية الكيان الجغرافي - السياسي للجمهورية اللبنانية.

من حق أي لبناني حريص على استقرار بلده وعلى صيانة ما تبقى فيه من حريات عامة أن يرحب بقضاء الجيش على تنظيم الشيخ أحمد الأسير المسلح في صيدا ويتمنى أن ينظف لبنان بأكمله من السلاح غير الشرعي.

لو جاز اعتماد المقياس العسكري مؤشرا وحيدا لتقويم أحداث صيدا، لصح اعتبار سيطرة الجيش السريعة على مربع الأسير الأمني في صيدا نصرا مبينا لدعاة إعادة الهيبة إلى الدولة اللبنانية ومؤسساتها. ولكنه يظل نصرا مجزوءا ما دام لم يستكمل بتطبيق متوازن لإجراءات فرض الأمن على كل الأراضي اللبنانية.

لا جدال في أن الشيخ الأسير تصرف، قبل أحداث صيدا وأثناءها، بتسرع يقارب التهور. ولكن من المكابرة الإنكار بأنه يمثل ظاهرة تعكس في بعدها السياسي قناعة أكثرية ساحقة من اللبنانيين: اعتبار الدولة، والدولة وحدها، الضمانة الشرعية لوجودهم في لبنان. أسلوب الخطاب المذهبي للشيخ الأسير أجج المشاعر الطائفية في الشارع اللبناني وأسهم في دفع البيئة الحاضنة لحزب الله إلى الالتفاف حوله في وقت يتعرض فيه، حتى داخل بيئته، لانتقادات واسعة على تورطه المكلف في النزاع السوري.

في هذا السياق خدم تهور الشيخ الأسير حزب الله أكثر مما أضر به، بل قوّاه في بيئته بينما أدى تركيزه على الطابع المذهبي للحزب إلى تغييب الرؤية الوطنية والسياسية لمعارضي وصاية سلاح حزب الله على لبنان الرسمي من منطلق ديمقراطي.

أحداث صيدا، وما سبقها من تطورات وتبعها من تداعيات، أظهرت عبثية مواجهة حزب الله مذهبيا، فهذا الحزب يواجه وطنيا وسياسيا فقط. وعلى هذين الصعيدين لا يحتاج منتقدوه إلى أكثر من سرد إعلامي للأخطاء التي راكمها منذ أن انتهى دوره كحركة مقاومة في الجنوب بعد حرب عام 2006 وغاص في زواريب بيروت الغربية عام 2008 وتورط في النزاع السوري خلافا لأي منطق سياسي سليم أو أي اعتبار للمصلحة اللبنانية.

استمرار حزب الله في ممارساته المعهودة لا يشجع على الاعتقاد بأن إنهاء الظاهرة «الميليشيوية» للشيخ أحمد الأسير تعني إنهاء الظاهرة «السياسية» التي يمثلها. والتبعات السياسية التي خلفتها أحداث صيدا الدامية عبرت عنها علنا القيادات السنية في لبنان. ولا يخفى أن أول ما تطرحه هذه التداعيات سؤال عما إذا كانت المؤسسة العسكرية ستستكمل مسيرة إلغاء كل «الحالات الأسيرية» المسلحة في جميع المناطق اللبنانية بصرف النظر عن تسمياتها الطنانة – والمضللة في معظم الأحيان - وتعزز بالتالي رهان اللبنانيين على وطنيتها التي تتخطى كل الشبهات.

أن يجمع كل رؤساء الحكومات اللبنانيين (السنّة) الأحياء، رغم خلافاتهم السياسية، على تأكيد تضامنهم مع أهلهم «الذين يشعرون بأن القانون يطبق على فريق من اللبنانيين دون سواهم» وأن يطالبوا «الجيش والقوى الأمنية القيام بمهماتها الأمنية بشكل كامل وشامل»... شهادة شبه رسمية عن مشاعر الإحباط التي تتفاعل حاليا في أوساط شريحة واسعة من الأكثرية الصامتة في لبنان.

تبديد هذه المشاعر لا يستدعي افتعال مواجهة عسكرية مع حزب الله، بل على الأقل رفع وصاية الحزب على التركيبة السياسية لحكومة تمام سلام المنتظرة بحيث يشعر أهل السنّة بأن الخلل الأمني الذي يشكون منه يمكن تعويضه، سياسيا، عبر تشكيلة حكومية متوازنة ومنعتقة من عبء «الثلث المعطل».