السعودية وأميركا: البناء والمشاركة والاستباقية

TT

الأحداث الكاشفة لا تخرج مرة واحدة، والرؤى المصيبة لا تتجلى دفعة كاملة، ولكنها تأتي رويدا لمن يبتغيها ويترصدها ويحرص عليها، إن ما تعيشه سوريا اليوم هو حدث ضخم بموازين التاريخ واستثنائي بمعايير السياسة ومؤلم بمقاييس الإنسانية.

يبدو أن التاريخ مثل البشر يشعر بالملل من رتابة الأحداث وركود المتغيرات التي هي ماؤه وغذاؤه فينتفض، وانتفاضة التاريخ تعبر عن نفسها بأحداث جسام ومتغيرات كبرى قادرة على إجبار الجميع على الوقوف والتأمل، فمقل ومستكثر، وعلى استنباط النتائج فمصيب ومخطئ.

وفي رتابة التاريخ وانتفاضته فإن طموحات البشر لا تتوقف وصراعات المصالح لا تني وخلافات الخصوم لا تكل.

تحدث وزير الخارجية الأميركي جون كيري في لقائه بالعاملين في القنصلية الأميركية بمدينة جدة السعودية الأسبوع الماضي حديثا مهما عن العلاقة بالمملكة العربية السعودية قائلا: «تظل العلاقة مع السعودية واحدة من أهم العلاقات (سوبر إمبورتانت). إنها ليست فقط بسبب الموارد، ولكن لأن السعودية ظلت تقوم بدور القيادة المفيدة، خصوصا في البناء والمشاركة والاستباقية. وأظهرت مبادرات نحو بعض التحديات المحيرة التي نواجهها»، وأضاف «هذه البصيرة وهذه الحكمة وهذا النوع من القيادة هو الذي نحن في حاجة إليه. خاصة في الآونة الأخيرة».

إن العلاقات السعودية - الأميركية هي علاقات استراتيجية أسس لها الملك عبد العزيز والرئيس فرانكلين روزفلت منذ لقائهما الشهير عام 1945 في البحيرات المرة بقناة السويس بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهي علاقات لم تزل تتطور وتنمو بعدهما، وما عبر عنه كيري من بصيرة وحكمة القيادة السعودية كان قد صنع مثله روزفلت بتصريحه في الكونغرس في مارس (آذار) من ذلك العام بقوله: «لقد وعيت عن مشكلة المسلمين ومشكلة اليهود في حديث دام خمس دقائق مع ابن سعود أكثر مما كنت أستطيع معرفته بتبادل ثلاثين أو أربعين رسالة». («الوجيز» للزركلي ص271).

روج خصوم السعودية من محترفي التضليل اليساري والقومي ورموز الإسلام السياسي قبل وصولهم لسدة الحكم، أن علاقات السعودية بالولايات المتحدة هي علاقات تبعية لا علاقات ندية، وقارئ تاريخ هذه العلاقات يكتشف حجم الكذب والتضليل الذي ينطوي عليه هذا التحليل، وما حديث الواقع اليوم تجاه الأوضاع في سوريا الذي علق عليه كيري بقوله: «السعودية ظلت تقوم بدور القيادة المفيدة، خصوصا في البناء والمشاركة والاستباقية» إلا مثال ضمن أمثلة كثيرة، فقد كان موقف السعودية واضحا منذ البداية في دعم الشعب السوري ضد النظام الشرس لبشار الأسد في خطاب الملك عبد الله الشهير، وكما كانت السعودية سباقة فقد كانت فاعلة على الأرض، وحين كانت الولايات المتحدة تحجم عن دعم الشعب السوري لمخاوف تسيطر عليها كانت السعودية تقدم كافة أشكال الدعم السياسي والإنساني والعسكري كما صرح وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، ولئن كانت الإدارة الأميركية محتارة تجاه الأوضاع في سوريا - كما عبر كيري - فقد كانت السعودية مبادرة. وفي الخلفية التاريخية القريبة فقد كان موقف السعودية رافضا للدخول الأميركي للعراق في 2003 وعبر الفيصل بأنه لم يكن سوى تقديم العراق على طبق من ذهب لإيران.

من جهة أخرى وجراء الشحن الطائفي الذي تقوده الجمهورية الإسلامية في إيران من خلال استغلال الطائفية و«التشيع» تحديدا مظلة تحرك تحتها أطماعها في النفوذ والهيمنة على العرب، فقد كان عجيبا حديث رجل إيران في العراق السيد نوري المالكي رئيس الوزراء حين قال متسائلا: «ما هذا الذي يجري في سوريا؟ لماذا هذا التحشيد؟ لماذا هذه العلانية؟ يقولون اقتلوهم، وماذا تنتظرون؟» وهو انتقد تدخل الأزهر الشريف تجاه الأزمة السورية.

هذا الحديث من السيد المالكي يحتوي على مغالطات متراكمة، فكل الأخبار الموثقة من صحافيين محايدين تؤكد أن ثمة ميليشيات شيعية مسلحة تخرج تحت سمع المالكي وبصره من العراق باتجاه سوريا وتشارك في قتل الشعب السوري تحت شعارات طائفية فاقعة اللون وصارخة التطرف، بل إن وزير خارجيته هوشيار زيباري أكد هذا الأمر بنفسه قائلا: «لا أنكر أن ثمة مقاتلين شيعة عراقيين يقاتلون في سوريا»، وليس لائقا بزعيم يتبنى خطابا طائفيا وهو منحاز للدولة الفارسية المعادية للعرب أن يقدم نصائح إنسانية أو سياسية هو أول مناقضيها.

نعم في حديث السيد المالكي ما يجب التوقف عنده وهو انخراط رجال الدين والمؤسسات الدينية في معارك سياسية، وهو أمر تفشى مع الربيع الأصولي في الجمهوريات العربية المنتفضة وزاد حدة واستقطابا حتى للمؤسسات الدينية الأكثر رصانة في السعودية ومصر بعد السياسات الطائفية الصارخة التي دخلتها إيران وحزب الله والميليشيات الشيعية العراقية وبعض الحوثيين في سوريا.

إن الانتقال من «الأولويات الأصولية» بعد الربيع الأصولي إلى «الأولويات الطائفية» بعد الأزمة السورية هو انتقال يؤكد المنحى الانحداري الذي وقعت المنطقة في براثنه منذ ما يزيد على عامين ونصف - كما نبه كاتب هذه السطور سابقا - ولسوء الحظ فهو منحى آخذ في المزيد من الانحدار.

الطائفية كانت فتنة نائمة أيقظتها إيران بحسبانها سلاحها للنصر وجسرها للنفوذ ولكن مارد الطائفية حين انطلق من عقاله بات يهدد حلفاء إيران والمحسوبين عليها في المنطقة، فهي خسرت كثيرا من التيارات والمثقفين الذين كانوا يساندون سياساتها في المنطقة، وهي ستجر الويلات على المنتمين لطائفتها خارج حدودها فقد ألقت بهم في أتون حرب لا يمكن لهم أن ينتصروا فيها بحال، وقد يصدق على بعضهم قول الشاعر: لم أكن من جناتها علم الله وإني بحرّها اليوم صالي.

إن المنطق الطائفي والمفردات الطائفية والفتاوى الطائفية ستصبغ المقبل من الأيام بلونها، وستخرج خبثها كأبشع ما يكون الخبث، وسينفخ في كير الفتنة مثقفون وإعلاميون ورجال دين، والأخطر من هذا أن ضخامة الأحداث وحرارة الدماء ستخرج بعض العقلاء من رصانتهم وستجرف بعض الحكماء عن حكمتهم وسيكون الرهان على قلة قليلة تكون قادرة على فرز المشهد والتفريق بين الصراعات السياسية وما يختلط بها من أبعاد طائفية.

إن نصرة الشعب السوري بكل سبيل هي فرض إنساني قبل أن تكون واجبا سياسيا للتصدي لمشروع إيران المعادي للدول العربية والمعتدي على سوريا، وحين تقود السعودية مثل هذا التوجه فإنها تزن بميزان الذهب تحركها بين نصرة مستحقة للمظلوم وقطع الطريق على جماعات الإرهاب.