كلام في الأبوية الاجتماعية

TT

رغم مرور ما يقارب المائة عام على قيام دول قطرية بالمعنى الحديث للدولة في منطقة الخليج العربي، فإن التاريخ الاجتماعي للمنطقة لا يزال تحت صورته الأبوية في أكثر من شكل، وعلى المستوى الثقافي يدور السؤال دائما حول من يجب استهدافه في عملية التغيير المنشودة، هل هي الأبوية السياسية أم هي الأبوية الدينية، وبين تيارات تؤمن بالتنمية البطيئة والمدروسة وتيارات أخرى تتلهف الحالات الثورية في التغيير، يبقى الغائب الوحيد من المعادلة هو الأبوية الاجتماعية.

تختلف درجة التنمية في دول الخليج، والحالة الاقتصادية للمواطن الخليجي التي تتفاوت بأرقام ملحوظة لا تشكل فارقا واقعيا على المستوى الاجتماعي، على تغير المجتمع من الحالة الأبوية إلى الحالة المدنية والمساواة بين جميع الأفراد. المساواة التي يرددها دائما أصحاب التيارات الثورية ككبسولة ناجعة للمواطنة الصالحة والمجتمع المتمدن، لم تكن يوما تعبر عن المساواة بين الرجل والمرأة وبين الأب والابن، أو بين الزوجين. والحريات التي تضج بها خطابات هذه التيارات بمختلف أشكالها هي أيضا لا تمس جوهر التركيب الاجتماعي وثقافته، لا تنفذ داخل الفكر ولا يهتم أصحابها بانعدام أثرها على هذه الأبوية.

الديمقراطية التي يعرف الثوريون شكلها السياسي ويراهنون عليه، لم تعن قط في أي خطاب خليجي ولا عربي، ربما، ديمقراطية اجتماعية تبدأ من تفكيك السلطات داخل المجتمع وبين أفراده. لم تصل الديمقراطية كمعنى للتساوي بين الأفراد دون النظر للجنس ولا العمر ولا المعتقد ولا العرق، ظلت مفردة سياسية لا معنى اجتماعيا لها، ولا اشتغال فكريا عليها، ولهذا بقيت مفردة مسروقة سياسيا لا تحضر إلا بالحديث عن السلطة السياسية.

الصراع الفكري الذي يعلو صوته يأخذ شكل تنابذ لفظي باسم الأبوية: من هو المستبد، السياسي أم الديني؟.. من هو المعني بالإزاحة، السياسي أم الديني؟.. من الذي يجب اعتباره مسؤولا عن الوضع الاجتماعي وتقع على عاتقه مشاريع التغيير؟!.. كل الأسئلة تدور حول طرفين، ولا سؤال يطرح عن الثالث، الابن الشرعي للاثنين، الأب الاجتماعي الذي يكبر في عمره ويظل في نظر كل دعوات التغيير مجرد طفل لا يعي مصلحته ولا تتم مخاطبته كمسؤول عن ذاته، الأب الاجتماعي الذي لم تتغير سلطته باختلاف الدول العربية عموما ولا الخليجية خصوصا، وهذه الأخيرة التي تتفاوت في تحقيق مستويات تنموية لا تتفاوت أبوتها الاجتماعية. الدول التي صادقت على كل المواثيق العالمية الخاصة بالأسرة، والدول التي تحفظت على أجزاء منها، جميعها تتشارك في سلطة الأب الاجتماعي.

ما زالت المرأة - أو الابن - في مجتمع خليجي يعيش في مدينته بطابعها العالمي، تقع تحت سلطة الأب والزوج تماما مثل بقية مجتمعاتنا الخليجية التي تتأخر في صورتها عن صور المدينة العالمية. لا يزال الأب الاجتماعي أقوى في سلطته على الإنسان الخليجي من أي أبوية سياسية أو دينية. لا تتفاوت البيوت الخليجية في تركيبها الاجتماعي إلا بهامش صغير من الملاحظة، ليبقى دائما الأمر معلقا بنصيب كل بيت من الأبوية. سيبقى الإنسان الخليجي معلقا دائما في حرياته الفردية والاجتماعية بنصيبه من أبيه، إن كان أبا تقليديا يؤمن بمركزية سلطته أو كان أبا تنويريا يؤمن بالمساواة الكاملة بين أفراد أسرته.

لن يشكل قانون الدول فرقا جوهريا في تفكير الإنسان في منطقتنا الخليجية ما لم يتم تغيير ثقافة المجتمع وتفكيك النظام الأبوي الاجتماعي. المرأة المعنفة العاجزة عن الخروج من منزل زوجها في دولة لا تحفظ حقها كمواطنة حرة لا وصاية ولا ولاية عليها، لن تختلف حالتها في الغالب عن المرأة المعنفة في دولة تعتمد المواثيق العالمية التي تحمي حقها القانوني، لأن الذي يعوق هؤلاء النساء ليس القانون فقط، بل الأب الاجتماعي الذي يرهبها عن اللجوء لهذا القانون مهما كان. السلطة التي تحكم المرأة هنا وتحكم الابن والابنة في كل مجتمعاتنا هي سلطة اجتماعية قاسية ونافذة تزرع الخوف في الأفراد من بعضهم البعض، قبل أن تأخذ أشكالها الأخرى من خوف السلطات الدينية أو السياسية.

هل يعني هذا أن التغيير السياسي أو القانوني الذي تعتمده الدولة ليس مهما؟.. بالطبع لا، تماما كما لا يعني بأي شكل من الأشكال أن السلطات الدينية لا يعني أنها أبويات ضعيفة وغير حاسمة في ثقافة المجتمع وتفكير الإنسان فيه، لكن أهمية زعزعة الأبوية الاجتماعية تشكل خطوة لا بديل عنها ولا مجال لإخضاعها في سلالم أولويات تعبث بكل جهود التغيير نحو مجتمعات إنسانية متقدمة وحديثة.

نعم ثمة تنمية متفاوتة بين الدول الخليجية، وثمة صور مختلفة من التمدن بين مدننا، لكن القواسم المشتركة التي تعطل التقدم وتعرقله تبدو دائما في جوهر الثقافة الاجتماعية، في طبيعة الفكر الأبوي الذي لا يكثرت بالمساواة بين أفراده ولا يعترف بأن سلطته هي الأقسى على الإنسان الخليجي.