الصراع السوري وأوهام الحسم العسكري!

TT

حين يغدو المشهد السوري مثقلا بالفتك والدمار، ويصبح السلاح صاحب الكلمة الفصل، تطغى أخبار المعارك، بهزائمها وانتصاراتها، على كل اهتمام، وتغدو حافزا لشحن الصراع وتعزيز لغة العنف، ولا يخفف من وطأة هذا الخيار وآلامه، الادعاء بأن ما يجري هو جهد استباقي من قبل النظام لتحصيل مكانة جديدة تؤهله لفرض اشتراطاته على الرغبة الدولية في حل سياسي، أو كمحاولة اضطرارية من قبل المعارضة المسلحة لتعديل توازنات القوى كي تجبر النظام وحلفاءه على فتح باب المرحلة الانتقالية العتيدة.

هو أمر مؤسف ومقلق، أن يفضي منطق الحرب، إلى انحسار الدور السياسي للمعارضة السورية أمام تقدم المكون العسكري، وقادته لا ينفكون عن تكرار أوهامهم عن حسم عسكري سريع في حال مدوا بالأسلحة أو جرى تحييد الطيران الحربي، أمام نظام لم تفارقه الأوهام ذاتها عن قدرته على سحق الثورة بما يملكه من وسائل القهر، واعتاد مع كل محطة تحقق فيها الآلة القمعية بعض التقدم، أن ينعش هذه الأوهام ويكرر لازمته، بأن الأزمة توشك على الانتهاء وبأن ما تواجهه البلاد سيغدو في وقت قريب من الماضي.

وعليه، يصعب على المرء فهم الطريقة التي تنظر فيها السلطة إلى النتائج، وكيف تخلص إلى أن خيارها الحربي يؤدي الغرض وينجح، وتعجب بعد أكثر من عامين من تجريب مختلف أصناف الأسلحة ومن عجز صريح عن كسر موازين القوى واستعادة السيطرة على أكثر من نصف مساحة البلاد، وبعد الخسائر الجسيمة التي منيت بها، وتراجع القدرة العمومية على إدارة مؤسسات الدولة، تعجب من استمرار الأوهام بإمكانية الحسم ونجاعة منطق كسر العظم، ومن تكرار القول بأن «القصة خلصت»، والإيحاء للآخرين بالانتصار وبعودة الأمور كما كانت، بينما الواضح أن الواقع يسير نحو الأسوأ، ونحو المزيد من التعقيد، والمزيد من احتدام الصراع، واستنزاف ما تبقى من قوة المجتمع وثرواته.

ليس سهلا على العقل إدراج ما حصل ويحصل في البلاد تحت عنوان الانتصار، فليس من معنى لكلمة انتصار في المشهد السوري اليوم إلا إذا جرى اختصاره فيما تخلفه قوة قمعية هائلة من دمار وفتك في المدن والمناطق المتمردة، وإلا إذا فهم بنجاح الممارسات السلطوية الموغلة في العنف والاستفزازات الطائفية في عسكرة الثورة واستجرار ردود فعل من الطبيعة ذاتها، وتاليا محاصرة المبادرات السياسية ووأد مختلف الجهود لإعادة بناء الوجه المدني للثورة، وليس من معنى لكلمة انتصار إلا إذا كان غرضه التعريف بأعداد ما فتئت تتزايد من الضحايا والجرحى والمفقودين ومن المشردين والمهجرين واللاجئين، وربما لتعزيز الروح المعنوية لأنصار النظام باقتراب ساعة الخلاص، وبضرورة بذل كل الجهود من أجلها، وبغير المعاني السابقة يضحك المرء على نفسه إذا نظر إلى الوقائع والحقائق الراهنة واعتبرها انتصارا، ما يشجع على طرح السؤال عن جدوى استمرار هذا العنف والتنكيل المعمم، وهل حقا لم ير النظام نتائج ذلك؟ وأين تفضي هذه الطريق؟!

يعتقد الكثيرون أنه مجرد وهم الرهان على الحسم العسكري وعلى دور المعالجة العنيفة في منح السلطة أو المعارضة فرصة الانتصار، ويعتقدون أيضا أنه من المحال، بعد أكثر من عامين من العجز وانحسار السيطرة، أن ينجح النظام بأي وسيلة، ومهما يكن دعم حلفائه، في تعديل موازين القوى بصورة نوعية، بل يرجحون أن يقود الاستمرار في هذا الخيار إلى حرب أهلية مديدة مع ما قد يرافق ذلك من تكلفة بشرية ومادية باهظة، ثم يخلصون إلى أنه ليس ثمة إمكانية متاحة أمام السلطة بعد ما ارتكبته، وبعد الشروخ العميقة التي حدثت لإعادة بناء الثقة وإدارة مجتمع واقتصاد وسياسة، وتاليا لاستعادة دورها العمومي في قيادة المجتمع.

المسألة التي لم يدركها النظام أو لا يريد إدراكها أن ما يسمى انتصارا على الشعب هو أكبر هزيمة للوطن، وأن كلمة انتصار ليست سوى الوجه الآخر لانكسار المجتمع وتدميره، والقصد أن منطق القوة والغلبة والعنف لم يعد يستطيع إعادة مناخات الرعب والإرهاب للاستئثار بالسلطة والثروة، ولإخضاع المجتمع من جديد، ولحكم شعب منكوب لم يبق عنده ما يخسره سوى حالة القهر والخنوع التي يعيشها.

لن تعود سوريا إلى ما كانت عليه قبل مارس (آذار) 2011. لغة السلاح والعنف لن تمنح المتحاربين أي فرصة للحسم.. سيبقى الصراع مستعرا ومكتظا بالضحايا وكأنه يدور في حلقة جحيم مفرغة طالما لم يتحقق التغيير السياسي وينَل الناس حقوقهم.. هي عبارات يتداولها الجميع كحقائق لا تقبل التأويل، ويبقى السؤال عن الطريق الأجدى كي تختصر دورة الآلام ويصل السوريون إلى مجتمع الحرية والعدالة والمساواة.