الانتخابات النيابية وشاعر المليون

TT

في دول الخليج العربي ما زال شيخ القبيلة يحمل رمزية، كونه شيخا وقدوة، ولمنزلته بين أفراد قبيلته الاحترام، حيث إن ما يمسه شخصيا يمس أفراد القبيلة، ومن ينتقص من شيخهم أو يؤذيه ينتقص من القبيلة ويؤذيها. ما زال شيخ القبيلة يلعب دورا تاريخيا في نفوس أبناء القبيلة وإن كان قد فقد الوظيفة التي من أجلها وجد، فلم يعد يحكم في النزاعات أو يطبق القانون بعد أن صار الإنسان القبلي مواطنا في دولة القانون، ولعل عمدة الحي في الدولة الحديثة يقوم بجزء كبير من عمل شيخ القبيلة سابقا، وتحول شيخ القبيلة تدريجيا إلى جزء من تراث القبيلة الذي يتكئ على مبادئ النخوة والشهامة والفزعة، وتحويل هذا الرمز أو إنزاله من رمزيته إلى خضم العمل السياسي سيفقده هيبته ومكانته، ويحوله إلى عظامي يعتاش بصفته التي ورثها عن أجداده، فشيخ القبيلة منصب وراثي لا يتم بالاصطفاء أو الانتخاب بل يرثه الابن عن أبيه، وفي صفته الوراثية تلك ما يعارض فكرة صناديق الاقتراع، أو أن يدخل في الانتخابات بمؤهل وحيد وهو صفته كشيخ قبيلة.

قبل سنوات قليلة كنا نشاهد بذهول ما تبثه القنوات الكويتية الخاصة بحق أبناء القبائل ووصفهم بمزدوجي الجنسية أو أنهم «لفو» ينتمون إلى «خارج السور»، إلى غير ذلك من التعابير الإقصائية، لكن اليوم ومع حل مجلس الأمة الأخير قبل انتهاء مدته، بدأت الحكومة في تشجيع شيوخ القبائل على خوض الانتخابات رغم المقاطعة الشعبية الواسعة للانتخابات من قبل أطياف كثيرة من المجتمع.

تتوقع الحكومة وهي تشجع شيوخ القبائل على ترشيح أنفسهم أن رابطة الدم التي تربط أبناء القبائل قد تجعل القبلي يصوت لشيخ القبيلة، وتصورهم هذا قد يكون ناشئا عما نشاهده في برامج المسابقات التلفزيونية التي تتغذى على تصويتات المشاهدين لشاعرهم، حيث تعودنا أن يصوت كل ابن قبيلة لشاعر قبيلته وليس لمن يتذوق شعره ويعجبه، لكن قبائل الكويت منذ مدة طويلة قد أثبتت أنها تتمتع بوعي سياسي، فالوطن عندهم ليس مسابقة ولا شاعرا، والمواطنة حقوق وواجبات. يغيب عن الحكومة أنه في الدورات الانتخابية السابقة قام الكثير من شيوخ القبائل في الكويت بترشيح أنفسهم للانتخابات في فرعيات قبائلهم، لكنهم لم يحصلوا على الأصوات اللازمة للفوز بمقعد في مجلس الأمة، حتى في مجلس الصوت الواحد مع قلة الأصوات اللازمة للمرشح!

نعم، أثبتت قبائل الكويت أكثر من مرة أنها على قدر كاف من الوعي، كما أنه في المجتمعات المدنية لا يوجد سيد قبيلة أو شيخ شمل، بل هناك مؤسسات مدنية وأحزاب سياسية ونقابات عمالية. في الدولة الحديثة تنصهر الهويات الثانوية كالقبيلة والطائفة داخل هوية واحدة كبيرة هي هوية الوطن.

على الرغم من أن دراسات التاريخ الاجتماعي تشير إلى إحلال الطبقة الاجتماعية محل القبيلة، بمعنى أن الإنسان القبلي بعد مدة من الزمن يتحول عن الانتماء من اسم قبيلته، ويعبر عن ذاته بالطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها، فإنني أرى أن القبيلة في المجتمع الخليجي ما زالت تحافظ على نسيجها وهويتها، وما زال أبناء القبائل يفخرون بانتماءاتهم القبلية، والحذر كل الحذر من أن يتحول هذا الزهو القبلي إلى شوفينية قبائلية مقيتة برعاية الحكومات وتزكيتها، حيث ينفصل الإنسان القبلي عن بقية مكونات المجتمع ويعود لهويته المغلقة حين يرشح شيخ قبيلته، فقط لأنه شيخ قبيلته، فهذا سيشكل خطرا كبيرا على المجتمعات، وعلى التعايش السلمي فيها.

إن وعي أبناء القبائل دفعهم في الماضي كما سيدفعهم الآن لاختيار مرشحيهم حسب الأهداف والمشاريع الانتخابية ورؤية كل مرشح لخدمات التعليم والصحة والسكن. أثبتت قبائل الكويت أنه لم يعد القبلي بدويا رحالا يسافر خلف الربيع والمطر، بل صار ارتباطه بالأرض التي يحمل جنسيتها وجواز سفرها، ولم تمنعه رابطة الدم مع شيخ القبيلة - وإن كان يعتز بهذه الرابطة – من أن يطمح للمشاركة السياسية، ويحلم بدولة المؤسسات وبالعدالة والمساواة في توزيع الثروات والمناصب وتكافؤ الفرص كما يحلم بها المواطنون الآخرون.