فقه الألفة

TT

أطرح دائما على المعارف الجدد سؤالا حول من يقرأون في الصحافة، لعلهم يدلونني إلى من فاتتني معرفته. غالبا ما يكون الجواب متوافقا مع الانطباع العام، مدحا أو استبعادا، وبعض الأجوبة يتجاوز الإعجاب إلى المحبة والتقدير.. وأشعر بفرح عندما يتلاقى موقفي مع من سألت.

اكتشفت أن الذين يقرأون الدكتور عطاء الله مهاجراني كل اثنين، متفقون على ميزاته وخصاله. أنا أقرأ هذا العالِم، ليس من أجل ثقافته الموسوعية؛ بل من أجل أن لا أفقد ثقتي بالعالم الذي أعيش فيه. أشعر أن مهاجراني يكتب بلغة الأمل والصفاء والسماح في عالم متكاسر لا صوت فيه إلا للنسف والاضطهاد والظلم والقتل وفلسفة الموت والعداء.

أعرف طبعا أن لا مكان لصوت مثل مهاجراني في مثل هذا العالم المدجج والمدمّى والمعمّى، لكن هذا هو الصوت الذي أحبه، وهذه هي اللهجة التي أرى فيها خلاص أمتي. لن يصغي أحد في هذه الجاهلية الهوجاء إلى صوت العقل والقلب والشروح، لكنه يظل نورا ضئيلا في عتمة كبرى.. هذا هو الصوت الذي أُبعد في إيران ونفي وتسخر منه.. لكن لو ظل خاسرا فسوف يظل صوت الحياة والجمال في حقل الفرقة والغضب.

استقبلت الناس الثورة الإيرانية بترحاب، ثم ظهر حجة الإسلام آية الله صادق خلخالي «رئيس محكمة الثورة» في صورة وهو يحمل بيده عظام جندي أميركي ويعرضها مبتهجا. وتحول الانطباع إلى أن الصورة ترسل الإيرانيين إلى الإعدام كل يوم، وتعرض عظام الأميركيين مثل محل جزارة يفاخر بنوعية ما يعرض.

محمد خاتمي ألغى من ذاكرة الناس تلك الصورة التي لا تمثل إيران ولا الإسلام ولا المعادين لأميركا.. إنها صورة رجل يعرض عظام رجل آخر. بكل صدق وبساطة، أقول إنني لا أقرأ الدكتور مهاجراني باعتباره كاتبا إيرانيا؛ وإنما بصفته مثقفا كبيرا، غالبا ما يمثلني وهو يكتب في قضايا تعنينا جميعا في هذا العالم. لم أقرأ له مرة كلمة ضيقة الأفق، أو يعلو فيها الغضب على الرؤية، أو يسقط فيها حق المحكوم أمام الحاكم.. ولا لمحت مرة تشجيعا على عداء أو خصومة أو نفور.

عندما أُسأل إن كنت قد التقيته، تؤسفني الإجابة بـ«لا».. لكن هناك أناسا كثيرين تشعر كأنك تعرفهم، أو تتمنى لو أنك تتعرف إليهم. معرفة مهاجراني من خلال مقال الاثنين تكفي وتفيض. إنه في الصف الأول من الكتَّاب الذين يدعمون الجدران المتداعية في عالمي.. هؤلاء أبدأ بهم نهاري وأشعر أن الظلام ليس دامسا والظلم ليس دائما. وبأنانية الخائفين، أشعر أن هؤلاء يحمون هذه المهنة من السقوط.. أهل فكر ومعرفة وتواضع. الرؤوس المليئة تميل إلى الانحناء.. الفارغة تُشهر نفسها ولا تعي أنها تشهِّر بها.