الليلة لا تشبه البارحة؟!

TT

أكتب عشية يوم السبت 29 يونيو (حزيران)، وبقيت ساعات على طلوع اليوم الموعود والمشهود الثلاثين من الشهر، حيث ستحتشد الحشود، وتتجمع الجماعات، وتحتبس الأنفاس انتظارا للحظة المواجهة العظمى في ساحات مصر. لا يمكن التنبؤ بما سوف يحدث، وعندما ينشر هذا المقال سوف يعرف القارئ أكثر مما عرف الكاتب ساعة الكتابة. ولكن ما عرفه هو أن عملية التعبئة نجحت، سواء من جانب حركة «تمرد» ومن تبعها من جماعات وحركات وأحزاب، أو من جانب جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها من جماعات «إسلامية» أخرى، والتي هي في كل الأحوال تعيش حالة من التعبئة المستمرة. هكذا هو حال التنظيمات «الكفاحية» التي تظن دوما أن عليها أن تحقق مهمة تاريخية هي على الأغلب استعادة لتاريخ قديم، وليس إقامة لزمن قادم. لم يطل الظن أن المسألة برمتها ربما تكون زوبعة في فنجان، وأن الشباب الذي جمع التوقيعات ما هو إلا مبالغ، أو أن المسألة كلها طيش، وليس لها أساس شرعي على أي حال. أو كان الظن كذلك لدى السلطة الحاكمة في مصر، أما النظارة من الشعب فربما كان تصديقه أكبر فقد ثبت أن الغضب عارم، وأن كرة الثلج تتدحرج وتكبر. وربما كان أول من اقترب من اليقين هو جماعة الإخوان المسلمين عندما حشدت من أجل مليونية «لا للعنف» يوم 21 يونيو، لأنها كانت تعني أخذ الأمر بالجدية التي يستحقها، ومن ثم كان استعراض القوة واجبا تحت الشعار اللطيف الذي حرص على القليل من حديث «السلمية»، ولكن التهديد بالسحق للخصوم لم يكن يستعصي على أحد. خطاب الرئيس محمد مرسي يوم الأربعاء 26 يونيو كان إلقاء للقفاز في وجه المعارضين، القدامى منهم والجدد، مع أعداء الأمس البعيد، وحلفاء الأمس القريب في ثورة 25 يناير (كانون الثاني). في يوم 28 يونيو كانت الساحات والميادين قد امتلأت بالثوار، بينما بقي «الإخوان» في ميدان رابعة العدوية وتبادل الجميع إشارات المبارزة القادمة.

لم تكن الليلة شبيهة بالبارحة، ففي يناير 2011 كانت المفاجأة تامة، وكانت الظروف كلها مختلفة. كنت في ذلك الوقت في مؤسسة «الأهرام» الصحافية العريقة 500 متر شمال ميدان التحرير، وعشت في ظل نظام كان متمركزا لستة عقود بألوان مختلفة، ولم يكن تصور الثورة أو التغيير الشامل واردا. كان الموضوع كله أشبه بحلم أو كابوس حسبما تقف سياسيا، يتغير ويتفتق كل يوم عن مفاجأة جديدة. أذكر يوم 8 فبراير (شباط) قبل ثلاثة أيام من نهاية النظام القائم أن عقد اجتماع في القصر الجمهوري.. كنا نحو خمسين صحافيا وإعلاميا جاء إليهم اللواء عمر سليمان الذي بات نائبا لرئيس الجمهورية لكي يكاشفنا بحقائق الأمور ويسأل عما إذا كان هناك مخرج. انتهى الأمر بأن الصحافة تريد أن تعلم أكثر، عندما جاء دوري في الكلام كان تعبيرا عن خشية أن تنتقل البلاد من ديكتاتورية قصر العروبة (المشهور بالاتحادية) إلى ديكتاتورية ميدان التحرير. للأسف كنت صحيحا هذه المرة، فكان ذلك هو ما جرى، وأصبح «الميدان» هو مصدر السلطات، وكانت المشكلة أن «الميدان» لا يعرف ماذا يريد، ولا كانت له قيادة تعرف إلى أين تتجه، فانتهى الأمر إلى ثورة مستمرة، وتسليم السلطة إلى جماعة الإخوان المسلمين، ولم تنجح الحركات «الثورية» في تحقيق شعاراتها، ولم تعرف الجماعة كيف يكون الحكم أو حتى إقامة الشرع. صار الأمر حقا هو ما سماه الزميل عبد العظيم حماد «الثورة التائهة».. بدأت بالدعوة لسقوط حكم مبارك، ومن بعده جاءت الدعوة لسقوط حكم العسكر، حتى وصلت الحركة إلى سقوط حكم المرشد. يا إلهي كم تغيرت الأيام خلال فترة وجيزة!

هذه المرة لم تكن هناك مفاجأة، فالموعد معلوم، والأساليب معروفة، والحشد والتعبئة باتت لهما طقوس تخرج بمقتضاها المسيرات من مساجد تحت أسماء ملتهبة، وكما كنا في الطفولة نسمي فرقنا لكرة القدم «الأسد المرعب» و«الشياطين الحمر» لكي نلقي الرعب في صفوف الفرق المنافسة، فإن ثورات الربيع باتت تسمي «جمعة الغضب» ويوم «الخط الأحمر»، وهكذا. كنت قد انتقلت إلى جنوب ميدان التحرير بنفس مقدار مسافة 500 متر إلى الجنوب، هذه المرة في مؤسسة «المصري اليوم» الفتية. النظام هنا لم يكن متمركزا منذ ستة عقود، ولكن أفكاره تعود 1400 عام إلى الوراء، والأخطر أنه يريد بها أن يحصل على أستاذية العالم، رغم الثابت أن العرب والمسلمين لم يقدموا إلا القليل منذ القرن الرابع الهجري! في المرة السابقة كانت هناك علامات وشواهد، ولكن مثلها جرى قبلا، فكان استبعادها من طبيعة الأشياء، وهذه المرة كانت الدمدمة واضحة، والغيوم الكثيفة تتجمع قبل شهرين من الموعد المحدد، وبقيادة جديدة اعتمدت على التوقيعات وشحذ الهمم. الغريب أن الموضوع كله بدا كما لو كان موجة واحدة، فقد قامت حركة «تجرد» التي أيدت الشرعية التي صارت صنو «الإخوان»، بما قامت به حركة «تمرد» التي صارت المعبر عن فكر شباب الثورة الجدد بعد أن صارت «جماعة يناير» من كبار السن تظهر في صفوف الأحزاب وعلى شاشات التلفزيون بأكثر مما تعيش في الميادين!

لم تتغير الأساليب كثيرا، وبقي على أي حال أيام الثورة الجديدة لكي تبرر اختلافها، وإلا لكان الأمر استمرارا لثورة قديمة مغدورة خدع أصحابها، وبات عليهم إثبات أن الأمر هذه المرة ليس فيه خدعة أخرى، والحقيقة ليس فيها كذبة كبيرة. وببساطة فإن ما لدينا بات اختبارا آخر، وهل يوجد في تاريخ الثورات إلا اختبارات وامتحانات قاسية؟ هناك اختبار السلطة من محطة الوصول إلى محطة النجاح، وهناك اختبار النخبة التي سوف يكون عليها أن تبلور برنامجا للعمل وليس أن تجلب شعارات إضافية، وهناك موقف «الإخوان» وهل يقبلون أن يكونوا فلولا أو مشاركين في نظام آخر، أم أن القصة كلها لا بد أن تتحول إلى نار ولهب ودم ودموع؟ الأسئلة كما نرى، فيها إشكالية التصور بوجود البداية والنهاية، بينما الشائع أن القصص أحيانا لا تزيد على أيام دوارة في صحراء قاسية لا يجد الناس فيها نجما أو هداية إلى سبيل ومقصد. أتمنى بالطبع أن يكون موعد نشر المقال هو موعد وضوح الرؤى، ووقت السلام وتجليات الاستقرار، ولكن الحظ لم يثبت منذ وقت طويل أنه بمثل هذه الإيجابية!!