بدأ العد العكسي لإنهاء «لبنان الدولة»

TT

كان لافتا جدا اضطرار رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، يوم السبت الماضي، إلى القول علانية خلال مؤتمر صحافي عقده في المجلس إن «الكلام عن تفريغ الرئاسة الأولى (أي رئاسة الجمهورية) وقضم من الثانية (أي رئاسة مجلس النواب) افتراء».

بري فصل قائلا: «من المؤسف أن نقرأ ما قرأناه ونسمع ما سمعناه، سواء بتصريحات أو بتحليلات، وكأن الأمر القائم بشأن الجلسة النيابية هو نتيجة الوضع السني - الشيعي، وهذا الأمر مقصود منه أحيانا تفريغ الرئاسة الأولى أو انتهاج سياسة قضم من (قبل) الرئاسة الثانية (أي من قبله هو كرئيس للمجلس) كي يحل الفراغ في الرئاسة الأولى ليصبح لبنان في المحصلة فيه رئيس واحد ...».

كان لافتا لأن بري قاله أصلا... وهو السياسي الذي يحلو للبعض وصفه بـ«الوجه العروبي المعتدل» لمشروع «الشيعية السياسية» الإقليمي.

بري أصر يوم السبت على عقد جلسة تشريعية في البرلمان الذي يترأسه - بل قل يصادره - بلا انقطاع منذ 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1992! مع أنه يعلم علم اليقين وصول التشنج المذهبي السني - الشيعي داخل لبنان إلى نقطة الغليان، ولا سيما بعد القضاء بالقوة على ظاهرة الشيخ أحمد الأسير في صيدا، ثالث أكبر التجمعات السنية في لبنان. والمدينة المتاخمة لدائرة الزهراني الانتخابية التي يمثلها الرئيس بري في البرلمان.

كذلك جاء الإصرار ردا على إعلان فريق سياسي شمل غالبية النواب السنة والمسيحيين رفضهم عقد الجلسة في غياب حكومة فاعلة، بحجة أنه قبل إنجاز الرئيس المكلف تمام سلام تشكيل حكومته العتيدة فإن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تظل مجرد «حكومة تصريف أعمال» ولا يحق لها المثول أمام النواب.

ثم بعد إعلان ميقاتي تبنيه الموقف الرافض للجلسة وتذرعه بأسباب قانونية لذلك، انبرى نائب ووزير سابق يصفه كثيرون بـ«سفير حزب الله إلى حركة أمل» للدفاع عن موقف بري، ما يوحي بأن إصرار رئيس مجلس النواب جزء من إصرار حزب الله الذي يؤكد يوما بعد يوم أنه غدا «قوة احتلال فعلي» في البلاد. وبعد بضع ساعات من موقف بري، وخلال مناسبة تأبينية في إحدى بلدات جنوب لبنان، شنف الحاج محمد رعد، رئيس كتلة حزب الله في البرلمان نفسه، آذان مستمعيه وعموم اللبنانيين عبر القنوات التلفزيونية، بمأثرة خطابية جديدة دعا فيها «الطرف الآخر إلى إعادة النظر في سياساته حرصا على شارعه من التوتر والارتطام بمزيد من الآفاق المسدودة». وتابع بـ«دبلوماسيته» المعهودة: «أقول لكم كفوا عن الصراخ في موضوع سلاح المقاومة؛ لأنه أصبح خارج كل بحث. راهنوا مرة ثانية على سلاح المقاومة وستشهدون كما يشهد كل العالم مزيدا من الانتصارات ضد أعداء الوطن وأعداء الأمة»!

طبعا لم يتطرق رعد بالتفصيل إلى أي انتصارات: على من؟ باسم من؟ ولخدمة من؟.. ولم يوضح هويات «أعداء الوطن وأعداء الأمة» المطلوب «مقاومتهم»... وهل هم في حيفا وما بعد بعد حيفا؟ أم في القصير وما بعد بعد القصير؟

اليوم يستخدم حزب الله سلاحه داخل لبنان وخارجه في أعقاب التزامه عمليا بالقرار الدولي 1701 القاضي بوقف «المقاومة» على جبهة الجنوب. وفي المقابل يشن حرب إلغاء سياسية لمؤسسات الدولة، فيقضمها مؤسسة مؤسسة، وسط مرارة عميقة في شارع سني مأزوم وشارع مسيحي مرتبك ومضلل (بفتح اللام)، وأمام واقع عربي يزيده قتامة خذلان دولي يقارب الخيانة.

لمدة قاربت الثلاثين سنة أضعفت هيمنة «الجهاز الأمني السوري - اللبناني» قدرة اللبنانيين على فهم حقيقة ما يحيط بهم من أحداث. وطوال هذه المدة تعامل اللبنانيون مع ممارسات الوجود الأمني السوري، بالذات، على أنها مجرد تجاوزات مألوفة من نظام بوليسي فاسد اعتاد أصلا على ممارساته على شعبه وداخل حدود بلده. وبالتالي، لا يجوز توقع أن يعاملهم بطريقة مغايرة لطريقة معاملته شعبه.

كانت الأمور محصورة بتحليل واقعي مجزوء وقاصر من هذا النوع.

ما كان هناك إدراك كاف لخلفية النظام السوري وارتباطاته ودوره، وكلها من الأمور التي كان يخفيها تحت شعارات «النضال» و«الصمود والتصدي» و«الممانعة» الفارغة... التي لم يعنها أو يؤمن بها في يوم من الأيام.

ما كان هناك استيعاب للأسباب الحقيقية، أكرر الحقيقية، مثلا وراء تأييده إيران ضد العراق في حرب الخليج الأولى.

ما كان هناك مساءلة حول سر موافقة إسرائيل والولايات المتحدة على دخول جيش نظام يزعم أنه «ممانع» أراضي لبنان وتمركزه فيها. واستمر غياب المساءلة والشك. حتى بعدما أدى ذلك النظام مهمة القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وأجهز على حلفائها في الحركة الوطنية اللبنانية التي كانت حاضنة «المقاومة» ضد إسرائيل!

ما كان هناك تنبه لاجتزائه مسألة نزع سلاح «الميليشيات» وحصره حق حمل السلاح والاحتفاظ به بحزب الله. ما كان هناك الوعي الكافي لغايات تعطيله المتمادي تنفيذ بنود «اتفاق الطائف»، الذي غدا جزءا من الدستور اللبناني، حتى عام 2005. تاريخ الانسحاب الرسمي للقوات السورية من لبنان. وأخيرا وليس آخرا، ما كان هناك توقف للتفكير والتساؤل بهدوء عن الدور الإيراني المقبول - حتى أميركيا وإسرائيليا - في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدا في أعقاب غزو العراق بذريعة الرد على اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

اليوم، باتت الأمور واضحة واللعبة مكشوفة في لبنان ذاته، وكذلك على مستوى المنطقة. ولهذا سقط الحذر بعدما انتفت الحاجة إليه.

صدق الحاج محمد رعد بقوله إن سلاح حزب الله صار «خارج كل بحث». صدق لأن استخدامه بات ضرورة قصوى لزج الشرق الأوسط في فتنة مذهبية مطلوبة تحت ستار «ضرب الجماعات التكفيرية» الموجودة فيها والمستوردة إليها. فتنة من هذا النوع تحتاج إلى ترتيب أوضاع المسرح... وإلغاء مؤسسات السلطة في لبنان جزء أساسي من هذا الترتيب.