أميركا وصحافة «ابق خارج سوريا»!

TT

نشر الزميل مشاري الذايدي أخيرا مقالا بعنوان «نصر الله.. محرر الأمة»، أشار فيه إلى تحالف العديد من الكتاب «التقدميين» و«المناضلين» مع نظام الأسد ونصر الله ضد الشعب السوري. ولكن لمعادلة التواطؤ والتضليل هذه، طرف آخر نجده في الإعلام الغربي وتحديدا الأميركي. إذا كان الطرف العربي يتحالف بشكل علني مع نظام الأسد ويبارك جرائمه، فإن الطرف الغربي - الذي لا يبرر بالطبع جرائم الأسد - عمل كل ما يستطيع لمنع التدخل الأميركي مما يعني إطالة أمد المعاناة السورية.

عدد كبير من المقالات والحوارات والمحاضرات تبنت بإصرار فكرة واحدة، وهي مباركة الموقف السابق للرئيس أوباما الممتنع عن تقديم أي دعم للثوار للإطاحة بالأسد. الطرف الغربي أخطر وأكثر فاعلية من بروباغندا مناصري الأسد ونصر الله فاقدة المصداقية، والتي قامت على العكس مما هو مطلوب منها، وهو مضاعفة عدد المتعاطفين مع الشعب السوري. ولكن مشاهير الصحافة الأميركية قدموا سلسلة طويلة من الذرائع المتكررة عن خطورة المشاركة الأميركية مما أجهض نشوء أي رأي عام جماهيري أو صحافي قد يلعب دورا ضاغطا على الإدارة الأميركية ويضطرها لتغيير حساباتها. رغم فظاعة الجرائم التي قام بها جيش الأسد وشبيحته، ومقتل أكثر من 100 ألف إنسان، فإن التفاعل العام مع هذه المأساة الإنسانية في الداخل الأميركي ضعيف جدا. كل هذا بفضل هذا الإعلام الذي شجع أوباما على التمادي في التجاهل، ووفر له التبريرات، وهاجم بعنف من ينتقد مواقفه (مثل الهجوم الساخط على السيناتور الشجاع جون ماكين الذي لعب وحده دورا كبيرا في مراكمة الضغط على أوباما حتى بدل أو عدل من موقفه أخيرا).

من أسوأ هذه الأمثلة الصحافية هو موضوع غلاف العدد ما قبل الأخير لمجلة The New York Review of Books. العنوان الرئيس الموجه للرئيس أوباما جاء على هذه الصيغة: «ابق خارج سوريا!». كاتب الموضوع لم يكف عن ترديد نصيحة واحدة للرئيس أوباما، وهي «لا تفعل شيئا». وهذا بالطبع ما فعله الرئيس أوباما طوال العامين الماضيين، ولم يغير قراره إلا بعد أن تزايد الضغط عليه (الرئيس كلينتون لمح أخيرا إلى هذا العنوان المستفز وقال: «ابق خارج سوريا».. هو أكبر خطأ). لكن هذا الموضوع يعكس فقط واحدا من الأساليب التي اتخذها هؤلاء الصحافيون لبناء حججهم وهو الاعتماد الواضح على المغالطات. من أشهر هذه المغالطات المتكررة والمتعمدة هي جعل سوريا نسخة من العراق، ومن ثم نفض اليدين من القضية كلها، والتأكيد على أهمية ألا «تتورط» الولايات المتحدة في هذا «المستنقع». هذه هي المغالطة المفضلة أيضا لدى الكاتب الشهير توماس فريدمان. قبل شهرين تقريبا ذهبت لحضور محاضرة لفريدمان في العاصمة الأميركية واشنطن. حجته الرئيسة التي ظل يرددها طوال المحاضرة هي «أن العراق وسوريا توأمان»، كما جاء في عنوان أحد مقالاته. من الواضح لأي متابع حجم الفارق بين ما حدث بالعراق وما يحدث حاليا بسوريا. الكاتب الشهير ليون ويزلتير نشر أخيرا مقالا في مجلة «النيوريبابلك» بعنوان: «اليسار الأميركي يشيح بوجهه عن العذاب السوري»، يوبخ فيه هؤلاء الكتاب الذين يعتقدون أن التاريخ ينتهي عند العراق، ويجادلون بأنه على أميركا الامتناع عن التدخل إذا لم يحقق تدخلها شيئا جيدا، ويضيف: «أليس شيئا جيدا أن توقف أبشع مجزرة تحدث في العالم، وتمنع الجهاديين من السيطرة على دمشق، وتعيد اللاجئين إلى أماكن آمنة، وتنقذ جيران سوريا من التدهور؟!». لا تقف المسألة عند هذه المغالطات وخلطة التنظيرات والمقارنات الغريبة، بل هناك أسلوب آخر وهو التلاعب المتعمد بمعاني بعض الكلمات المهمة في سياق النقاش حول الأزمة السورية.. مثلا، كلمة «التدخل» المقصود بها ليس تدخلا عسكريا أميركيا على الأرض السورية، وإنما دعم مقاتلي الجيش الحر بالسلاح والتدريب وفرض منطقة حظر طيران. لا أحد يطالب بوجود أميركي أو دولي في ساحة القتال. رغم أن هذا أمر مفهوم، فإن كلمة «التدخل» تصبح بالنسبة لهؤلاء الصحافيين والكتاب تدخلا أو «تورطا» أميركيا عسكريا على الأرض. مغالطة متعمدة بلا شك.. لماذا؟ لأنها تستعيد بسهولة الذكريات المؤلمة للجنود الأميركيين القتلى في العراق وأفغانستان، وهي ذكريات مزعجة للذهنية الأميركية. نفس الشيء في ما يخص إعادة التذكير بالسبب الذي ثار من أجله الشعب السوري، وهو القمع الرهيب وقتل الأطفال الأبرياء والمدنيين الذي ابتدأ في درعا ولم يتوقف إلى هذه اللحظة. لكن الممانعين ينسون متعمدين كل ذلك ويركزون نقاشهم على السبب الطائفي، الذي لم يبرز إلا في وقت متأخر، ومن مجاميع محددة، وبسبب امتناع المجتمع الدولي عن وقف جحيم الإبادات.

أسلوب آخر أيضا، هو استخدام بعض الأخبار كحدث وحدها وعزلها عن السياق العام الذي يشرح فعلا حدوثها. كريستوفر هايز المذيع الشاب في قناة «MSNBC» ردد مدة خبر إعدام جماعة إرهابية في سوريا مراهقا. خبر بشع بلا شك، ولكن المذيع يستخدمه فقط لخلط الأوراق، وضرب مصداقية المعارضة السورية المعتدلة، وكل ذلك من أجل التأكيد على منطقية عدم التدخل بحجة «ماذا تفعل الولايات المتحدة بكل هذه الجماعات المتطرفة؟». هذا المذيع لا يتطرق لكل الأطفال الأبرياء الذين قتلتهم الأجهزة الأمنية ومثلت بجثثهم علانية، ولا يدرك أيضا أن القضاء على هذه المنظمات الإرهابية التي يمكن أن تفعل ما هو أبشع من ذلك لا يكون إلا بدعم القوى السورية المعتدلة. سياسة «ابق خارجا» و«لا تفعل شيئا» هي من أنعش هذه الجماعات المتطرفة قبل أي شيء آخر.

من جانب آخر، هناك أيضا عدد كبير أيضا من المفكرين والكتاب والصحافيين الأميركيين ممن قدموا الحجج الواقعية على أهمية إنقاذ السوريين من المجازر التي ترتكب بحقهم، وفهموا بشكل صحيح أن إهمال الوضع السوري سيخلف آثارا مدمرة على المنطقة كلها. نتذكر من هؤلاء الكتاب فؤاد عجمي - الذي نشر كتابا كاملا عن الثورة السورية - وولي نصر وليون ويزلتير وروبرت كيغان، وقبلهم الكاتبة الشجاعة آن ماري سلاتر التي استخدمت كل المنابر الممكنة للكشف عن خطورة الانسياق حول هذه التنظيرات المغالطة في الوقت الذي تتعرض فيه مدن كاملة للتطهير المنظم.