حكمة.. هندية!

TT

عندما يتحدث امبارتيا سن وهو المفكر الاقتصادي الهندي العالمي البالغ الأهمية فعلى المهتمين والمتابعين الإنصات بتمعن، وفي آخر إصدارته اللافتة يقدم الرجل كتابا جديدا بالغ الأهمية بعنوان: «المجد غير المضمون الهند وتناقضاتها»، وهو يقدم تحليلا دقيقا وقاسيا وواقعيا عن حال الهند، ذلك البلد الكبير وشبه القارة في حجمها ومحتضنة العشرات من الأعراق واللغات والملل والأديان والأفكار وكذلك صاحبة لقب الديمقراطية الأكبر في العالم، وكيف أن «النهضة الهندية الاقتصادية الهائلة» التي تحياها اليوم وباتت مصدر إلهام وإثارة للكثير من الدول والأمم حول العالم، إلا أن هذا النجاح لم يتسبب في رخاء وتطور لحال الأغلبية من الهنود أنفسهم وذلك بحسب رؤية الرجل الكاتب. ويقدم الكاتب (مع كاتب آخر مشترك ساعد في تأليف الكتاب وهو جين درويز) واقعا مهما يتمثل في أن البنية التحتية في الهند لا تزال مهترئة وسيئة وكذلك القطاع الصحي العام الذي يئن من المعاناة وسوء الحال المتدهور. والكتاب يطرح فرضية باتت شبه حقيقية أن الدول الناشئة (الصين والبرازيل اليوم) وأوروبا قديما كلما زاد معدل الإنتاج القومي الـ5% سنويا يكون هناك آلية هائلة لاستحداث الوظائف وتطور هائل في مناخ الأعمال والاستثمار وارتفاع في المداخيل للحكومات، وهذا من شأنه أن يقلص من مساحة الفقر في المجتمعات، كل ذلك صحيح جدا إلا في الحالة الهندية كما يؤكد الكتاب. وهذا من أسبابه سوء إدارة المال العام، فالهند مثلا تصرف مبالغ أعلى على دعم الأسمدة من صرفها على كافة القطاعات الصحية والطبية العامة وهي حقيقة أقل ما يقال عنها إنها مفزعة ومزعجة، وما يقال عن حال الخدمات الصحية العامة يقال كذلك على وضع المؤسسات التعليمية العامة، المباني مهملة وفي حال مزر، وكذلك هو حال الكادر التعليمي الذي لا يداوم في الكثير من المدارس العامة على مدى السنة. الحالة الهندية المهمة هذه وكافة تفاصيلها اللافتة ممكن أن تكون ذات دلالة بالغة الأهمية للأسواق الناشئة عموما وتحديدا للأسواق العربية التي قد تمر بما يحصل للهند وإن كان بصور مختلفة ومتذبذبة ولكن دروس الهند تبقى مهمة جدا. فالهند بنجاحها وبفشلها قادرة على التأثير على دول مجاورة كثيرة مثل باكستان وسريلانكا ونيبال وبنغلاديش وغيرها بطبيعة الحال وبالتالي «أثر» هذه التجربة وما تنقله من قيم ومعان وأهداف بالغة الأهمية والدلالة، لأن تجارب عربية مختلفة كانت قد قامت قديما تحت شعارات «ثورية» و«إسلامية» و«دينية» و«قومية» وكلها باءت بالفشل الذريع، لأنها كلها كانت محاولات قاصرة وقصيرة النظر بشكل هائل، وأيضا كانت دوما إقصائية وانتقامية وذات نظرة دونية لغيرها وكل من يخالفها وهنا مكمن الخلل وأساس الخطورة.

واليوم في خضم تداعيات حالات الربيع العربي وثوراته هناك شعارات ترفع ووعود تطلق من دون سقف مسؤول للرقابة والمتابعة مجرد «جزر» يتم إلقاؤه للناس ولكن بلا مؤسسات ولا شخصيات فعالة وناجحة تدعم السياسات والخطط، وهنا تأتي خيبة الأمل. حجم الوعود كبير وحجم التحديات أكبر ولكن الحلول يجب أن تكون في منطقة واقعية بينهما وهو ما لا يحدث طالما كان الاستحقاق دوما من نصيب أهل الثقة وليس أهل الكفاءة، فهي مفتاح خطير لأن تتحول الحكومات مرتعا للمحاسيب والأنصار مكونة سرطانات مدمرة من الفساد الذي يأكل كافة الطموحات والنوايا مهما كانت حسنة. المشوار يبقى طويلا والليل معتما طالما غابت الرؤية.