السنة في لبنان وهيمنة حزب الله

TT

استغرق الأمر أربعا وعشرين ساعة، أو ما ينيف، لدخول الجيش اللبناني معقل الشيخ أحمد الأسير، وتطلب الأمر ستة عشر قتيلا من الجيش، وعددا غير معروف من مجموعة الأسير وبعض المدنيين لحسم معركة المربع الأمني في صيدا.

كانت هذه المعركة منذ بدئها معركة غير متكافئة، وكانت انتحارا للأسير، ومغامرة قسرية للجيش؛ ومع انتهائها بنصر حاسم للجيش تداعى السياسيون لاستغلالها كل حسب مصالحه، ودونما مراعاة للمصلحة الوطنية الجامعة، فكانت النهاية السياسية لا تختلف عن البداية، تراشق، أشبه بالصبياني، بين مكونات الوطن، واختلاف جذري على الأولويات والمسلمات.

إن ظاهرة الشيخ الأسير ليست طارئة على المجتمع اللبناني، بل هي سمة من سمات نسيجه الاجتماعي، وعلامة فارقة على استمرار المواجهة بين منطق الدولة ومنطق الميليشيات، والمواجهة المتفاقمة بين السنة والشيعة، وبين تشرذم المسيحيين وتوزع ولائهم على فريقي النزاع في لبنان. وإذا ما تجاوزنا ذلك كله، ونظرنا إلى أسباب تلك الظاهرة، وغصنا في أسباب بروزها في الطائفة السنية، لوجدنا أن أبرز خصائصها الغياب الطبيعي للزعامة الجامعة، والشعور بجرح الذات، والانشطار بين الولاء للوطن والانتماء للأمة؛ ولوجدنا أن الترياق الناجع لاستعادة دور هذه الطائفة يكمن في استعادة بناء الذات، وخلق مناعة قادرة على مواجهة أمراض الداخل، ومحاربة أوباء الخلافات الإقليمية والدولية.

إن الشيخ الأسير لا يمكن اعتباره إرهابيا، كما يصوره البعض، بل هو مواطن رأى أن بلده مختطف، وأن أهله رهائن، وأن واجبه الديني، مثل غيره، دفعه لأن يعبر عن ولاءات تتجاوز حدود الإقليم اللبناني، وهو بذلك لا يبتكر جديدا، بل يقلد ما يفعله آخرون، ولا ينفع التخفي وراء أصابع اليد لنكران ذلك؛ فكل طائفة في لبنان يساورها حلم الاستفراد، والتفرد، والاستقلال الذاتي. هذا الحلم مرده الواقع المعيش الذي أثبت أن اللبنانيين غير قادرين على بناء هوية وطنية جامعة، وأن الولاء الطائفي أقوى من أي ولاء وطني جامع، وتعمق هذا الحلم أكثر مع عصر العولمة الذي ساهم في تعزيز الخصوصية، وكرس التميز الإثني والديني من باب الإيجابية المغايرة، وعزز الانفتاح الاقتصادي على حساب التشرذم الاجتماعي.

علاوة على ذلك فإن عنصر غياب الزعامة في الطائفة السنية كان له الدور الأكبر في ظاهرة الشيخ الأسير؛ لأن الطائفة بعد غياب الراحل الحريري لم تجد الشخصية المؤهلة، والقادرة لقيادة الطائفة، ومداواة جرح الذات.

هذا الأمر كان سببا في بروز تيارات إسلامية حاولت أن تسد الفراغ الذي خلفه الحريري في هذا الميدان، وقد تيسر لتلك التيارات الرصيد الديني، والبيئة الإقليمية، والاستعداد الداخلي، فكان أن برزت قوة دينية سياسية على الساحة اللبنانية.. هذه القوة تحولت مع مرور الوقت لحالة خصام لخط الحريري!

تأثر الموقف عندما لم تجر حماية الطائفة في بيروت لا عسكريا ولا دستوريا. لقد كشفت حملة 7 أيار مدى الضعف في المؤسسة الدستورية لأن مؤسسة الجيش الحامية للوطن وقفت تتفرج على مدينة تستباح وعلى مؤسسات تحترق؛ فالجيش، كما يبرر، لا يمكنه الدخول في مواجهة مع حزب الله، وليس قادرا على الدخول في حرب لا تغطية سياسية لها!

في هذه الدورة السياسية كان الجميع خاسرا، وكان الشعور البارز أن الطائفة السنية في خطر، وكان تعمق الجرح الوجداني يزداد عمقا! وقد ازداد هذا الشعور أكثر، مع انطلاقة الثورة السورية، ودخول حزب الله على خط المدافعة عسكريا عن النظام السوري، واندفاع الطائفة لتأييد الثورة السورية مستبشرة بأن عهدا جديدا سيبدأ. وبينما عمدت الطائفة إلى الوقوف مع الثورة بكل ما أمكنها، وبالمقابل أعلن حزب الله أنه لن يقبل بسقوط نظام الأسد، وأرسل قواته لتغير مجرى الحرب، وتحول دون سقوط النظام.

ظاهرة الأسير هي بالفعل نتاج طبيعي لغياب الزعامة، وانكسار هذه الظاهرة سيعمق أكثر شعور الطائفة بالانكسار والتهميش؛ فعندما وقف الأسير، مع الاعتراف بأن مشروعه في منتهى الخطورة، يقاوم عسكرة حزب الله للشارع السني بعسكرة موازية، وقفت الزعامة السنية تتفرج على مشهد درامي، طائفي، وكأن الأمر لا يعنيها، رغم ما تستجره هذه الظاهرة من خطر على الطائفة وعلى الكيان اللبناني. لقد تركت الزعامة السنية لظاهرة الأسير، وغيرها من الظواهر السنية، الساحة أن تفعل ما تشاء اعتقادا منها أن ما يحدث سيربك حزب الله، وسيضعف التيارات المتشددة، ودونما أي اعتبار للمستقبل والتداعيات الخطرة.

كان بإمكان الزعامة السنية أن تفعل شيئا ما، لوقف اندفاعة الأسير، سياسيا أو دستوريا، وتحاول رأب صدع الطائفة، ووضع إطار يتفق عليه في الحد الأدنى لتجاوز القطوعات الخطيرة التي يمر بها لبنان. لكن الزعامة السنية، وهي زعامة غائبة، وقفت تتفرج، وعندما وقعت المواجهة بين الجيش اللبناني وجماعة الأسير، لم يكن أمامها سياسيا سوى خيار دعم الجيش، ولم ينفعها تكرار مقولة أن على الجيش سحب كل السلاح بما فيه سلاح المقاومة؛ لأن سلاحها باعتراف كل بيانات الحكومات المتعاقبة، وآخرها حكومة ميقاتي، سلاح شرعي. ولا يمكن الطعن بهذا السلاح إلا من خلال معادلة جديدة، لا يبدو في الأفق ما يدل على وشك حصولها.

في غياب الزعامة السنية، وتخبط لبنان، تخلص حزب الله من ظاهرة الأسير، وسيتخلص من ظواهر أخرى؛ لأنه حزب يعرف كيف يسير في خط السياسة، وخط المواجهة المسلحة، ولأنه حزب قادر على التفاعل مع جماهيره، ولأنه حزب له قضية، ويحمل مبادئ، بينما لن تتمكن التيارات الأخرى من مداواة جرح الطائفة السنية، ولا من التواصل مع جماهيرها، وهم بعجزهم هذا سيفتحون الباب أمام مزيد من المشاكل، وسيجرون على لبنان أخطارا نسأل الله أن يدرأها.

* كاتب لبناني مقيم في لندن